الجديد لم يعرف عجلة الخزَّاف، فيما تدل الآثار الباقية لنا؛ إنما صنع بيديه هذا الطين أشكالا ذات جمال ونفع في آن معاً؛ وزخرفة الآنية برسوم ساذجة (٤٠) وهكذا جعل صناعة الخزف منذ بدايتها تقريباً لا تقف عند حد كونها صناعة فحسب، بل جعل منها فنًّا كذلك.
وهاهنا كذلك نجد العلامات الأولى لصناعة أخرى من كبُرى الصناعات الأولى: صناعة البناء؛ فإنسان العصر الحجري القديم لم يخلّف لنا أثراً كائناً ما كان لمسكن غير الكهوف؛ حتى إذا ما بلغنا العصر الحجري الحديث، ألقينا بعض وسائل البناء مثل السلمّ الخشبّي والبكرة والرافعة والمقصلة (٤١)؛ فقد كان "سكان البحيرة" نجارين مهرة يربطون أعمدة الخشب إلى أساس البناء بخوابير ثابتة من الخشب؛ أو يصلونها وهي موضوعة رأساً لرأس، أو يزيدونها قوة بدقّ عوارض تتطلب معها على الجوانب؛ وكانت أرضيَّة الغرفة عندهم من الطين، وجدرانها من الغصون المجدولة مغطاة بطبقة من الطين، والسقف من اللحاء والقش والحلفاء والغاب؛ ثم بمعونة البكرة والعجلة استطاع الإنسان أن ينقل مواد البناء من مكان إلى مكان، وبدأ في وضع أسس ضخمة من الحجر لقُراه؛ وكذلك أصبح النقل صناعة من الصناعات، فصُنِعت الزوارق التي لا بد أن تكون قد ملأت البحيرات حركة؛ ونُقِلت التجارة عبر الجبال وإلى القارات البعيدة (٤٢)، وأخذت أوربا تستورد من البلاد النائية أحجاراً نادرة كالعنير والبَشم والحجر الزجاجي الأسود (٤٣) وأنك لتجد في أصقاع مختلفة من الأرض تشابها في كلمات أو حروف أو أساطير أو خزف أو رسوم، مما يدلك على ما كان بين جماعات البشر قبل التاريخ من اتصال ثقافي (٤٤).
ولو استثنيت الخزف، وجدت أن العصر الحجري الجديد لم يخلّف لنا فنا نستطيع مقارنته إلى ما كان عند إنسان العصر الحجري القديم من تصوير وصناعة تماثيل؛ فهنا وهناك بين مشاهد الحياة في هذا العصر الحجري الحديث،