كما كان أشهرهم في العصور التاريخية متنبئي أبلو في دلفي. وكان اليونان و "البرابرة" يستشيرون هذا المتنبئ، وحتى رومة نفسها كانت ترسل الرسل ليعرفوا إرادة الإله أو يوحوا إليه بهذه الإرادة. وكانوا يظنون أن النساء أكثر استعداداً لتلقي الوحي من الرجال، ولذلك كانت ثلاث كاهنات لا تقل سن كل منهن عن نصف قرن يدربن على تعرف لإرادة أبلو وهن في غيبوبة، وكان غاز عجيب يخرج من فتحة في الأرض تحت الهيكل ويعزوه الناس إلى تحلل الأفعى التي قتلها أبلو في ذلك المكان. وكانت الكاهنة التي ستتلقى الوحي تجلس على نضد عالٍ ذي ثلاث قوائم موضوع فوق الشق، وتستنشق الرائحة الكريهة المقدسة، وتمضغ أوراقاً من تاج من أوراق الشجر المخدر، فتغيب عن وعيها ويتقلص جسمها، ثم ينزل عليها الوحي وهي في هذا الحال، فتنطق بألفاظ متقطعة يترجمها الكهنة للشعب المستمع وكثيراً ما كان الجواب النهائي يحتمل تأويلات مختلفة بل متناقضة، وبذلك تكون المتنبئة صادقة على الدوام مهما وقع من الحوادث. ولعل الكهنة هم والمتنبئة كانوا جميعاً ألعوبة في أيدي غيرهم، وكانوا في بعض الأحيان يقبلون الرشا لينطقوا بما يحب الراشون أن ينطقوهم بهِ، وكان صوت المتنبئة يتفق في أكثر الحالات مع صاحب النفوذ الأكبر في بلاد اليونان. أما إذا لم تكن هناك سلطة خارجية ترغم الكهنة على أن ينطقوا بما ترغب فيهِ، فإنهم كانوا يلقون على اليونان دروساً قيمة في الاعتدال والحكمة السياسية؛ فقد أعانوا على استقرار القانون وتثبيت دعائمه، وكان لهم أثر كبير في تحرير الرقيق، وقد اشتروا عدداً كبيراً من الأرقاء لكي يحرروهم من الرق؛ وإن كنا لا ننكر أنهم تغاضوا عن التضحيات البشرية بعد أن أخذ ضمير اليونان ينفر منها، ولم يرفعوا صوتهم بالاحتجاج على ما كان يحدث فوق جبل أولمبس من فساد خلفي. ذلك بأنهم لم يكونوا متقدمين على التفكير اليوناني، ولكنهم مع ذلك لم يقفوا في سبيل هذا