هاجر الناس- يلوذون فراراً مما أصاب أرضهم من جفاف في المطر وجفاف في تربة الأرض- فساروا في اتجاهات ثلاثة، يحملون معهم ما لهم من فن ومدنية؛ فبلغت فنونهم- إن لم يبلغوا بفضيلتهم- أرض الصين ومنشوريا وأمريكا الشمالية من جهة الشرق؛ وبلغت شمال الهند في سيرها إلى الجنوب؛ ثم أدركت في طريقها نحو الغرب بلاد "عيلام" و "سومر" ومصر؛ بل إيطاليا وأسبانيا كذلك (٧٥)؛ فقد وجدت في "سوزا" وهي في "عيلام" القديمة (فارس الحديثة) آثار تشبه في نمطها آثار "أناو" شبهاً يكاد يبرر للخيال الذي يعيد قوته صورة الماضي، أن يفترض أنه قد كان بين "سوزا" و "أناو" صلات ثقافية في فجر المدنية (أي حول سنة ٤٠٠٠ ق. م)(٧٦) وكذلك يوجد شَبَه كهذا في الفنون والمنتجات القديمة يوحي بوجود علاقة كهذه بين بلاد ما بين النهرين ومصر فيما قبل التاريخ، وبوجود ارتباط يدل على اتصال مجرى المدنية.
ويستحيل علينا أن نعلم علم اليقين أيّ هذه الثقافات جاء أولا، وليس ذلك بكبير الأهمية، لأنها جميعاً كانت في جوهرها أفراد أسرة واحدة ونمط واحد، فلو كان لنا أن نخالف الرأي الشائع الذي اكتسب احتراما لقِدَمه، بحيث نضع "عيلام" و"سومر" قبل مصر، فلسنا نصدر في ذلك عن عبث يريد مخالفة المعروف لذاتها، لكننا نعتمد على الحقيقة التي تدل على أن عمر هذه المدنيات الآسيوية، إذا قيس إلى مدنيات إفريقية وأوربا، يمتد طولا كلما ازداد علمنا بتلك المدنيات عمقا؛ فمجاريف علماء الآثار بعد أن قضت قرنا كاملا في بحثها المظفّر على ضفاف النيل، انتقلت في سيرها عبر السويس إلى جزيرة العرب وإلى فلسطين وبين النهرين وفارس، وهي كلما خطت في طريقها هذا، ازددنا ترجيحا مع تزايد المعرفة التي تعود علينا من أبحاثنا، أن الدلتا الخصيبة للأنهار التي تجري في أرض الجزيرة "ما بين النهرين" هي التي شهدت أول مناظر المسرحية التاريخية للمدنية الإنسانية، فيما نعلم.