والرقص- وثيقة الصلة بعضها ببعض عند اليونان الأولين، وكانت تؤلف في كثير من مظاهرها فناً واحداً ثم دخل فيها التفرع والتخصص المهني على توالي الزمن وبدأ ذلك في القرن السابع، فترك الشعراء الجوالون للأغاني واستبدلوا بها التلاوة، وفضلوا الشعر القصصي عن الموسيقى (٨٦). وكان أرشلوقوس Archilochus يغني أشعاره دون أن يستعين بآلات موسيقية (٨٧)؛ وبدأ ذلك التدهور الطويل الأمد الذي نزل بالشعر آخر الأمر فجعله أشبه بملك صامت حبيس سقط من السماء. ثم تفرع الرقص ذو الغناء الجماعي فكان منه غناء من غير رقص، ورقص من غير غناء، لأن (الحركات العنيفة تسبب قصر النفس، ولذلك أثر سيئ في الغناء) كما يقول لوسيان (٨٨). وظهر بهذه الطريقة عينها موسيقيون لا يغنون، نالوا إعجاب مستمعيهم بمحافظتهم الدقيقة على أرباع النغمات (٨٩). وقد غالى بعض مشهوري الموسيقيين وقتئذ، كما يغالي أمثالهم الآن في أجورهم. من ذلك أن أميبوس Amoebeus المغني والعازف على القيثارة كان يتقاضى وزنة (تالنتا) أي نحو ٦٠٠٠ ريال أمريكي عن كل حفلة (٩٠). وما من شك في أن الموسيقي العادي لم يكن ينال من الأجر إلا ما يسد به رمقه، وذلك لأن الموسيقي، كغيره من الفنانين، ينتمي إلى مهنة كان لها شرف القضاء على أهلها جوعاً في كل جيل من الأجيال.
وأما الذين نالوا أوسع الشهرة فهم أمثال تربندر، وأريون، والكمان، وأستسيكورس، الذين برعوا في جميع أنواع الموسيقى، والذين مزجوا الغناء الجماعي، والموسيقى الآلية، والرقص، فجعلوا منها فناً واحداً معقداً متوافقاً، لعله كان أجمل واجلب للسرور من التمثيلات الغنائية والفرق الموسيقية في هذه الأيام. وكان أريون أشهر أولئك الأساتذة كلهم. ويروي عنه اليونان أنه كان يقوم برحلة من تاراس Taras إلى كورنثة، فسرق منه الملاحون نقوده، ثم خيروه بين القتل طعناً أو غرقاً. فما كان منه إلا أن غنى أغنية أخيرة