للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البركليزي مغالاة في العواطف، ولا شذوذ في الشكل أو محاولة تهدف إلى التجديد عن طريق الغريب غير المألوف (١)، وليس الغرض الذي يرمي إليه هو تمثيل ما في الحقائق الواقعية من الخلط وعدم التناسق، بل الغرض من هذا الفن هو الاستحواز على جوهر الأشياء الذي ينيرها، وتصوير إمكانيات الناس المثالية. ولقد استحوز السعي للحصول على الثراء والجمال والمعرفة على عقول الأثينيين فشغلهم عن التفكير في التقي والصلاح، وفي ذلك يقول أحد المدعوين إلى وليمة عند زنوفون: "قسماً بالآلهة جميعهم أني لو أعطيت كل ما لملك الفرس من سلطان لفضلت عليه الجمال" (٣).

ولم يكن اليوناني، مهما تكن الصورة التي يرسمها له الروائيون في العصور التي هي أقل من عصره رجولة، عابداً مخنثاً للجمال، أو إنساناً يستخفه الطرب ويتغنى بأسرار الفن حباً في الفن، بل كان يُخضِع الفن في فكره للحياة، ويفكر في الحياة على أنها أعظم الفنون على الإطلاق. وكان ذا نزعة نفعية تميل به عن الجمال الذي لا نفع فيه، وكان النافع والجميل والطيب مرتبطة كلها في تفكيره ارتباطها في فلسفة سقراط (٢) وكان يرى أن الفن هو قبل كل شيء تجميل طرق الحياة ووسائلها. فكان يتطلب أن تكون آنيته ومصابيحه، وصناديقه ونضده، وسرره وكراسيه نافعة وجميلة معاً، وألا تبلغ من الرشاقة والجمال حداً يفقدها صلابتها. وكان وضوح "إدراكه للدولة" يوحد بينه وبين قوة المدينة وعظمتها، فاستخدم من ثم آلاف الفنانين لتجميل أماكنها العامة، وتعظيم أعيادها، وإحياء تاريخها. وأهم من هذا كله أنه كان يحرص على أن يكرم آلهته، ويستجلب عطفهم ورضاهم، ويعبر عن شكره لهم لما وهبوه من حياة أو نصر. وكان يهدي إليهم النذور من الصور والتماثيل، ويهب الهياكل الشيء


(١) يقول توكيديدز على لسان بركليز: "نحب الجمال دون إسراف".
(٢) يقول استندهال Stendhal: " ليس الشيء الجميل عند الأقدمين إلا صورة رائعة للشيء النافع".