وبعد فإن الطب اليوناني لا يرقى رقياً جوهرياً عما كانت تعرفه مصر عن الطب وعن الجراحة قبل عصر آباء الطب المختلفين بألف عام، وإذا ما نظرنا إلى التخصص بدا لنا أن ما وصل إليه اليونان فيه أقل مما وصل إليه المصريون. على أننا يجب من الناحية الأخرى أن نجل اليونان ولا نبخسهم حقهم، لأن الطب من ناحيته النظرية والعملية قد بقى حتى القرن التاسع عشر عند الحد الذي أوصله إليه اليونان. وجملة القول أن العلوم اليونانية قد بلغت الدرجة التي ينتظر الإنسان أن يبلغها علم من العلوم من غير الاستعانة بآلات دقيقة للرصد والملاحظة، ومن غير التجارب العلمية. ولولا العقبات التي أقامها في طريقه الدين والفلسفة لكان له شأن أعظم من شأنه هذا، فقد حدث في الوقت الذي كان فيه كثيرون من الشبان في أثينة يتحمسون لدراسة الفلك والتشريح المقارن، أن حالت التشريعات الرجعية الجاهلة دون تقدم العلوم، وكانت سبباً في اضطهاد أنكساغوراس، وأسبازيا، وسقراط. وكذلك كان "تحول" سقراط والسوفسطائيين عن دراسة العالم الخارجي إلى دراسة العالم الداخلي، ومن الطبيعة إلى علم الأخلاق، كان هذا التحول سبباً في تحويل التفكير اليوناني من مشاكل الطبيعة والنشوء والتطور إلى مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق. وظل العلم واقفاً لا يتحرك مائة عام كاملة خضع فيها اليونان لسحر الفلسفة ومفاتنها.