أو بالأحرى توزعت من أثينة على غيرها من مراكز الحياة اليونانية. وحتى أفلاطون نفسه الذي عرف ما بلغته هذه الحمى وما أدت إليه من أزمات استُنفِدت قواه بعد أن دامت هذه الحال الجديدة ستين عاماً كاملة، وكان يحسد مصر على إيمانها الديني واستقرار أفكارها وهدوئها. ولم يشهد عصر من العصور المقبلة إلى أن حل عصر النهضة ما شهده هذا العصر من حماسة في التفكير وقوة في النقاش.
وكان أفلاطون يمثل أعلى منزلة وصلت إليها الحركة التي بدأت ببارمنيدس، وكان لها بمثابة هجل Hegel لكانت Kant، ومع أنه لم يكن يتورع عن التنديد بآراء الفلاسفة، فإنه لم ينقطع يوماً ما عن تعظيم أبيه الميتافيزيقي. وفي بلدة إيليا الصغيرة القائمة على ساحل إيطاليا الغربي نشأت في عام ٤٥٠ ق. م الفلسفة المثالية التي أثارت في كل قرن من القرون المقبلة حرباً شعواء على المادية (١)، وقذفت في بوتقة التفكير الأوربي مشكلة المعرفة الغامضة العجيبة، ومشكلة الفرق بين الظاهر من جهة وما لا يعرف ولا يمكن أن يعرف من جهة أخرى، وبين الحقيقي غير المنظور والمنظور غير الحقيقي، وظلت هذه الأفكار تغلي أو تغطمط طوال تاريخ اليونان القديم وفي أثناء العصور الوسطى حتى انفجرت مرةً أخرى في عصر كانت وعلى يديه وأضحت ثورة فكرية عارمة.
وكما أن هيوم Hume قد أيقظ "كانت"، كذلك كان أكسانوفان Xenophanes هو الذي دفع بارمنيدس إلى الاشتغال بالفلسفة، ولعل عقل بارمنيدس كان واحداً من عقول كثيرة أثارها قول أكسانوفان إن الآلهة ليست إلا أساطير، وإنه لا توجد إلا حقيقة واحدة هي العالم والله جميعاً. كذلك درس بارمنيدس مع الفيثاغوريين وسرى فيه شغفهم بعلم الفلك، ولكنه لم يضل في بيداء النجوم،
(١) ولقد واجه الهنود هذه المشكلة قبل ذلك بزمن طويل، وبقوا بارمنيديين إلى آخر عهودهم، ولعل نزعه اليوبانيشاد Upanishads المضادة العاطفية قد تسربت إلى بارمنيدس عن طريق أبونيا أو فيثاغورس.