وهاتان العمليتان المتبادلتان عملية التطور وعملية الانحلال مستمرتان إلى أبد الدهر في كل جزء على حدة وفي الكل مجتمعاً، وتتنازع القوتان قوة الائتلاف وقوة التفرقة، قوة الحب وقوة الكره، قوة الخير وقوة الشر، وتتوازنان في نظام عالمي شامل هو نظام الحياة والموت. ألا ما أقدم فلسفة هربرت اسبنسرا! (٧٣).
ومكان الله في هذه العملية غير واضح، وذلك لأن من الصعب أن نفرق بين الحقيقة والمجاز أو بين الفلسفة والشعر في أقوال أنبادوقليس، فهو في بعض الأحيان يوحد بين الإله وبين الكون نفسه، وفي بعضها الآخر يوحد بينه وبين حياة كل حي أو عقل كل عاقل، ولكنه يدرك أننا لن نستطيع قط أن نكون فكرة صحيحة عن القوة الخالقة الأساسية الأصلية. انظر مثلاً إلى قوله:"لن نستطيع أن نقرب الله منا قرباً يمكننا من أن ندركه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا … ذلك أنه ليس له رأس بشري ملتصق بأعضاء جسمه، وليس له ذراعان متفرعتان تتدليان من كتفيه، وليس له قدمان ولا ركبتان ولا أعضاء مكسوة بالشعر. إنه كله عقل لا غير، عقل مقدس لا ينطبق عليه وصف، يومض في طيات العالم كله وميض الفكر الخاطف"(٧٤). ويختم أنبادوقليس حديثه هذا بنصيحة الشيخوخة التي أنطقته بها الحكمة والكلالة:"ما أضعف وما أضيق القوى المودعة في أعضاء الإنسان، وما أكثر المصائب التي تثلم حد التفكير، وما أقصر الحياة التي يكدح فيها الناس والتي تنتهي بالموت. فإذا حل بهم زالوا من الوجود وتلاشوا كما يتلاشى الدخان وصاروا هواء، يعرفون أن ما يحلمون به ليس إلا الصغائر التي عثر عليها كل واحد منهم أثناء تجواله في هذا العالم. ومع هذا تراهم جميعاً يفخرون بأنهم عرفوا كل شيء. ألا ما أشد حمقهم وأكثر غرورهم! ذلك أن هذا الكلي الذي يفخرون بمعرفته لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا يمكن أن يدركه عقل إنسان"(٧٥).
واستحال في آخر سن من حياته واعظاً دينياً أكثر مما كان من قبل،