للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هل ذهبت في حياتك إلى دلفي؟ ". " وهل لاحظت ما هو مكتوب على جدار الهيكل- أعرف نفسك؟ " "نعم لاحظته". "وهل لم تفكر في هذه الكتابة، أو هل عنيت بها، وحاولت أن تفحص عن نفسك وتعرف عن يقين حقيقة أخلاقك؟ " (١٧٥).

فلم تكن الفلسفة إذن عند سقراط هي الدين، أو ما وراء الطبيعة، أو الطبيعة نفسها، بل كانت علم الأخلاق والسياسة، مدخلها والوسيلة إليها المنطق، وإذ كان قد عاش في ختام عصر السوفسطائيين فقد أدرك أن هذه الطائفة قد أوجدت حالة من أشد الحالات خطورة في تاريخ أية ثقافة من الثقافات وتلك هي إضعاف أحد الأسس التي تقوم عليها الأخلاق ونعني به خوارق الطبيعة. وبعد أن أدرك هذا لم يعد خائفاً مرتاعاً إلى الإيمان بالدين بل سلك السبيل إلى أعمق الأسئلة في علم الأخلاق: هل يستطاع وجود علم للأخلاق قائم على أساس من الطبيعة؟ أي هل يمكن أن تبقى الأخلاق من غير الاعتقاد بخوارق الطبيعة؟ وهل في مقدور الفلسفة إذا صاغت قانوناً قوياً أخلاقياً دنيوياً غير ديني أن تنقذ الحضارة التي تهددها حريتها الفكرية بالانهيار والزوال؟ وحين يقول سقراط في الأوطيفرون أن ليس الخير خيراً لأن الآلهة ترضى عنه، بل إن الآلهة ترضى عن الخير لأنه خير، حين يقول هذا يعرض في واقع الأمر ثورة فلسفته. ولم تكن فكرته عن الخير فكرة دينية، بل كانت فكرة دنيوية إلى حد يجعلها نفعية. فهو يرى أن الصلاح ليس فكرة عامة مجردة، ولكنها فكرة خاصة عملية فالصالح صالح لشيء ما"، والصلاح والجمال شكلان من أشكال المنفعة والفائدة البشرية، وحتى السلة من الروث تكون جميلة إذا أحسن إعدادها للغرض الذي تؤديه (١٧٦). وإذ لم يكن ثمة (في رأي سقراط) شيء غير المعرفة يعادلها في نفعها، فإن المعرفة هي أسمى الفضائل والرذيلة جميعها هي الجهل (١٧٨)، وإن كان المقصود بالفضيلة (Arete) هنا هو التفوق لا البراءة من الذنوب. والعمل الصالح غير مستطاع بغير المعرفة الحقة، وبالمعرفة الحقة يكون العمل الصالح أمراً محتوماً لا مفر منه،