ويبحث عن الأسباب الطبيعية للحوادث، ويوازن بين شخصيات ديونيشس وأوزيريس، وأساطيرهما موازنة العالم المحقق؛ ويبتسم ابتسامة المتسامح مما يروي عن تدخل الآلهة في حوادث العالم، ويعرض لتفسيرها أسباباً طبيعية (١٤٤)؛ ويكشف لنا عن خطته العامة ويغمز بطرف عينه حين يقول:"إني مضطر إلى أن أقص ما ينقل إليّ، ولكني غير ملزم بتصديقه، وأحب أن يصدق هذا القول على كل قصة أرويها في هذا التاريخ"(١٤٥)، وهو أول من وصلت إلينا مؤلفاتهم من المؤرخين اليونان، وعلى هذا الاعتبار لا نلوم شيشرون على وصفه إياه بأنه أبو التاريخ. ويضعه لوشيان، كما يضعه معظم الأقدمين، في منزلة أرقى من منزلة توكيديدز (١٤٦).
ومع هذا كله فإن الفرق بين عقل هيرودوت وعقل توكيديدز كالفرق بين المراهقة والنضوج، ذلك أن توكيديدز ظاهرة من ظواهر عصر الاستنارة اليوناني، وهو من سلالة السوفسطائيين، كما كان جبن من الناحية الروحية من سلالة بايل Bayle وفولتير. وكان والده من أثرياء الأثينيين يمتلك مناجم للذهب في تراقية، وكانت أمه تراقية من أسرة عريقة. وقد تلقى كل ما كان في أثينة في أيامه من تعليم، ونشأ في جو التشكك الفلسفي، ولما شبت نار حرب البلوبونيز أخذ يسجل حوادثها يوماً فيوماً، ثم مرض بالطاعون في عام ٤٣٠، وفي عام ٤٢٤ اختير وهو في سن السادسة والثلاثين (أو الأربعين) أحد قائدين توليا قيادة حملة بحرية سيرت إلى تراقية، ولما أن عجز عن قيادة قواته إلى أمفبوليس Amphipolis ليفك عنها الحصار في الوقت المناسب - نفاه الأثينيون، فقضى العشرين سنة التالية من عمره يتنقل من بلد إلى بلد وخاصة في إقليم البلوبونيز. وإلى هذا العلم المباشر بأحوال العدو يرجع بعض ما يمتاز به كتابه من نزاهة ذات أثر كبير في النفس. ولما شبت الثورة الألجركية في عام ٤٠٤ انتهى أجل نفيه فعاد إلى أثينة. ومات - ويقول بعضهم إنه اغتيل - في عام ٣٩٦ أو قبله قبل أن يتم تاريخ