أجزائها أزقة وطرقات غير مرصوفة، وأمواجاً من الحرارة ترقص في الهواء، وعمالاً عرايا إلى أوساطهم يكدحون في مختلف الأعمال، ونساء ذوات مآزر سود يحملن الأثقال، وشيوخاً عليهم جلابيب بيض فاخرة وعمائم تكسوهم المهابة والوقار. وتقع العين من بعيد على ميادين فسيحة وقصور فخمة لا تقل جمالاً عما شاده فيها البطالمة حين كانت الإسكندرية ملتقى العالم كله. ثم لا يلبث الإنسان أن يرى نفسه فجاءة في الريف ويرى المدينة من ورائه تتراجع إلى أفق دال النهر الخصيبة، وهي ذلك المثلث الخضر الذي يبدو في المصورات كجريد النخلة السامقة محمولاً على جذع نهر النيل الرفيع.
وما من شك في أن هذه الدال كانت في يوم من الأيام خليجاً في البحر؛ طمره النهر الواسع طمراً بطيئاً لا تدركه العين بما ألقاه فيه من الغرين الذي حمله معه آلاف الأميال (١). وفي هذا الركن الطيني الصغير الذي يحيط به مصبّا النهر العظيم يخرج ستة ملايين من الفلاحين قطنا يصدرون منه إلى خارج بلادهم ما قيمته مائة ألف ريال في كل عام. وفي ذلك الصقع من أصقاع العالم يجري أعظم نهر من أنهار الأرض وأوسعها ذكراً، تسطع الشمس على مياهه البرّاقة الهادئة وتكتنفه من جانبيه أشجار النخل الرفيعة السامقة والحشائش والحقول الناضرة. وليس في وسع المسافر أن يرى الصحراء الغربية من مجرى النهر العظيم أو الوديان الجافة التي كانت من قبل روافد له. ولا تستطيع في هذه المرحلة أن تدرك ضيق أرض مصر الشديد، واعتمادها التام على أرض النيل، وما يحيط بها على الجانبين من رمال سافية تناصبها العداء.
ويمر القطار الآن وسط السهل الرسوبي المغطى بعضه بالماء، والذي تخترقه قنوات الري في كل مكان، وينتشر فيه الفلاحون يجدّون ويكدحون وليس عليهم
(١) يعتقد الجغرافيون القدماء أنفسهم "استرابوان مثلاً" أن أرض مصر كانت فيما مضى تغمرها مياه البحر الأبيض المتوسط وأن صحاريها كانت في قاع هذا البحر.