وقد استمد هذا الأسلوب لونه ونغمته من الخطب التي كانت تلقى السوق العامة وفي الحكم، شأنه في هذا شأن جميع النثر الروماني في القرن الذي كان يعيش فيه سلست وفي القرن الذي يليه. ذلك أن تقدم مهنة القضاء ونشأة الديمقراطية الكلامية قد زادا حاجة الناس إلى الخطابة العامة، فأخذت مدارس الخطابة يتضاعف عددها على الرغم من عداء الحكومة لها. وفي هذا يقول شيشرون إنك تجد "الخطابة في كل مكان"، وكان أول ظهور أساتذة هذا الفن في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، ومن أشهرهم ماركس أنطونيوس (ابن أنطونيوس الشهير)، ولوسيوس كراسس Lucius Crassus، وسلبسيوس روفوس Sulpicius Rufus، وكونتس هورتنسيوس Quintus Hortensius. وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهؤلاء الخطباء من رئات قوية إذا علمنا أن الذين يستمعون لهم كانت لا تتسع لهم السوق العامة، بل كانت تغص بهم الهياكل والشرفات المجاورة لها. وكانت بلاغة هورتنسيوس واستعداده لأن يبيع مواهبه وضميره بالمال مما جعله محبوب الأشراف كما جعله من أغنى أغنياء رومه. وترك لورثته بعد وفاته عشرة آلاف دن من الخمر (٤٦)، وكان إلقاؤه قوياً حباً حياً حتى كان روسيوس وإبسيوس وغيرهما من كبار الممثلين الذائعي الصيت يحضرون المحاكمات التي يترافع فيها ليتعلموا ما ينقصهم من فن التمثيل بدراسة حركاته وطريقة إلقائه؛ وقد حذا حذو كاتو الكبر فراجع خطبه ونشرها، وهو الفن الذي وصل به منافسه شيشرون إلى ذروة الكمال، والذي جعل للخطابة أبلغ الأثر في النثر الروماني كله. ولقد بلغت اللغة اللاتينية عن طريق الخطابة الدرجة القصوى في البلاغة والرونق والقوة والحمال الذي يبلغ جمال اللغات الشرقية؛ والحق أن الخطباء الشبان الذين جاءوا من بعد هورتنسيوس وشيرشرون كانوا يعيبون على ما يسمونه الأسلوب "الأسيوي" إسرافه في المحسنات اللفظية، وفي إثارة عواطف السامعين، حتى لقد أخذ قيصر وكلفس Calvus