للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كانت من قبل مطامع الرجال المبدعين المبتكرين بما تخلعهُ عليهم من الجاة والسلطان، وأضحى هؤلاء يرونها من دواعي الغرور الكاذب الكبير الأكفاء. وحتى السلم التي بسط أغسطس لواءها على البلاد، والأمن الذي وطد دعائمه في رومة، قد أضعفا قوى الشعب وأوهنا عزيمتهُ، فلم يكن أحد يرغب في الانضمام إلى الجيش، أو يعترف بأن الحرب شر محتوم، وأن لا بد من خوض غمارها من آن إلى آن؛ وحل الترف محل البساطة في العيش، والعلاقات الجنسية الطليقة محل الأبوة والأمومة، وأخذ الشعب العظيم يسير مسرعاً بإرادتهِ المضمحلة المنهوكة في طريق الفناء.

وكان الإمبراطور الشيخ يشهد هذه المآسي ويشعر بها ويدركها حق الإدراك. ولم يكن في وسع أحد من الناس أن يقول لهُ وقتئذ إن الزعامة العجيبة الحاذقة التي أنشأها ستهب الإمبراطورية الرومانية أطول فترة من الرخاء عرفها البشر في تاريخهم كلهُ، وإن السلم الرومانية التي بدأت في صورة السلم الأغسطسية ستعد في عصور التاريخ المقبلة أجل الأعمال في تاريخ الحكم والسياسة رغم ما فيها من العيوب الكثيرة وعلى الرغم من أنه قد جلس على العرش في أثنائها بضعة ملوك بلهاء. لقد كان أغسطس وقتئذ يعتقد، كما يعتقد ليوناردو دافنشي، أنه أخفق فيما كان يبتغيهِ.

ووافتهُ المنية وهو هادئ ساكن في نولا Nola، وكان قد بلغ السادسة والسبعين من عمره (١٤ ب. م)، وقال لأصدقائهِ الذين التفوا حولهُ وهو على فراش الموت تلك الكلمات التي طالما اختتمت بها الملهاة الرومانية: "والآن وقد أتقنت تمثيل دوري، فصفقوا بأيديكم وأخرجوني من المسرح بتصفيقكم"، ثم عانق زوجتهُ وقال لها: "تذكّري عشرتنا الطويلة يا ليفيا. الوداع".

ثم فاضت روحهُ بعد هذا الوداع البسيط (٤٢). وبعد بضعة أيام من وفاتهِ حملت جثته في شوارع رومة على أكتاف الشيوخ إلى ميدان المريخ حيث أحرقت بينما كان أطفال كبار الأسر في البلاد يرتلون ندبة الأموات.