شعرياً، وحتى بلني نفسه كتب صفحة بليغة في المجلدات الستة من كتابه في التاريخ الطبيعي. وأخذ الناس يغلون أنفسهم باتزان عباراتهم، وتناغم جملهم، وأضحت التواريخ خطباً حماسية، وأخذ الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث عن النكات، وشرع كل إنسان يكتب أمثالاً مركزة موجزة، وصار الأدباء كلهم يكتبون الشعر ويقرؤونه لأصدقائهم حول مناضد في ردهات أو دور تمثيل يستأجرونها لهذا الغرض، بل إنهم كانوا يقرؤونه في الحمامات نفسها، حتى شكا من ذلك مارتيال مر الشكوى. وعقدت مباريات عامة للشعراء، ينال الفائزون فيها جوائز وتحتفل بهم المجالس البلدية، ويضع الأباطرة عل رؤوسهم أكاليل النصر. وكان الأشراف والزعماء يرحبون بأن تُهدى إليهم المؤلفات أو يُثنى عليهم فيها، وكانوا يجيزون صحبها بالولائم أو الأموال. وكانت شهوة الشعر مما أكسب هذه الفترة وتلك المدنية اللتين دنستهما الإباحية الجنسية وعهود الإرهاب المتكررة نقول كانت هذه الشهوة مما أكسب هذه الفترة ذلك الجمال الذيؤ يخلعه المؤلفون الهواة على العصر الذي يعيشون فيه.
واجتمع الشعر والإرهاب في حياة لوكان، وكان سنكا الكبير جده، وسنكا الفيلسوف عمه. وقد ولد في قرطبة عام ٣٩ وسمي ماركس أنيوس لوكانس Marcus Annaeus Lucanus، وجيء به في طفولته إلى رومة ونشأ في بيئة أرستقراطية يصطرعفيها الشعر والفلسفة مع دسائس الحب ومع السياسة في سبيل الغلبة والمكانة السامية في الحياة. ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره اشترك في المباريات التي عقدت أثناء الألعاب النيرونية، وتقدم إليها بقصيدة "في مدح نيرون" نال عليها جائزة. وأدخله سنكا في بلاط الإمبراطور، وسرعان ما أخذ الشاعر والإمبراطور يتطارحان الملاحم. وأرتكب لوكان غلطة شنيعة إذ كسب الجائزة الأولى في مباراة شعرية مع الزعيم، فما كان من نيرون إلا أن أمره بألا ينشر بعدها شعراً، وانسحب لوكان ليثأر لنفسه سراً بتأليف ملحمة قوية ولكنها خطابية