مصوغة في ألفاظ جوفنال التي جمعها من ألسنة الغوغاء في أزقة المدن وأشعاره السلسة السداسية الأوتاد، وفكاهته الساخرة، وأسلوبه البذيء. ولكن ليس من حقنا أن نأخذ بحرفية أقواله. لقد كان يكتب وهو غاضب، لأنه لم يشق طريقه في رومة بالسرعة التي كان يرجوها. وكان يحلو له أن يثأر لنفسه بأن يكيل الضربات قوية لكل من حوله مدفوعاً إلى ذلك بحقده الذي لم يدع في يوم من الأيام أنه حقد عادل. لقد كان معياره الخلقي عالياً وسليماً وإن كان قد لوثته أهواء المتحفظين وآراؤهم الخاطئة عن الماضي الطاهر الشريف. وفي وسعنا إذا استمسكنا بهذه المعايير، واتبعناها في غير رحمة واعتدال، أن ندين أي جيل من الناس في أي مكان. وقد أدرك سنكا قدم هذا اللهو فكتب يقول: "لقد كان أسلافنا يشكون، ولا نزال نحن نشكو، وسيظل أبناؤنا وأحفادنا يشكون، من فساد الأخلاق، ومن تمكن الشر من النفوس، ومن تردي الناس في مهاوي الخطايا كل يوم أكثر من الذي قبله، ومن أحوال الناس تنتقل من سيء إلى أسوأ منه (٣٠). إن من وراء الفساد الخلقي الظاهر في كل مجتمع دائرة من الحياة السليمة يتسع نطاقها إتساعاً مستمراً ويكفي ما فيها من خيوط التقاليد، وأوامر الدين التي تحض على الخلق الصالح، وما تفرضه الأسرة من واجبات إقتصادية، وما تدفع إليه الغريزة من حب الأبناء والعناية بأمرهم، وما للمرأة ورجال الشرطة من رقابة، يكفي ما فيها من هذا كله لأن يجعلنا أمام الناس مؤدبين محتشمين عاقلين معتدلين. لقد كان جوفنال أعظم الهجائين الرومان، كما كان تاستس أعظم المؤرخين الرومان، ولكنا نخطيء إذا أخذنا الصورة التي يرسمانها على أنها صورة صحيحة، كما نخطئ إذا قبلنا من غير بحث وتمحيص المنظر الراقي الجذاب الجميل الذي يتراءى أمامنا ونحن نقرأ رسائل بلني.