الفرس لعله يتلقى الحكمة عن المجوس والبراهمة أنفسهم. فلما وصل إلى أرض الجزيرة قفل راجعاً إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما (٢٤٤) وبقي فيها حتى توفي. وقد انتشر مذهبه الفلسفي وأصبح طراز ذلك العصر، فضمه الإمبراطور جالينوس Gallienus إلى حاشيته، ورضى أن يساعده أن ينشئ في كمبانيا مدينة أفلاطونية تحكم على مبادئ جمهورية أفلاطون. ولكن جالينوس رجع فيما بعد عن وعده، ولعله فعل ذلك ليوفر على أفلوطينس إخفاقه المخزي.
وأعاد أفلوطينس إلى الفلسفة سمعتها الطيبة بأن عاش معيشة القديسين وسط ترف روما ورذائلها؛ فلم يكن يعنى بجسمه، بل إنه "كان يستحي أن يكون لروحه جسد" على حد قول برفيري Porphyry (٤٣) . ومن الأدلة الناطقة باحتقاره جسده أنه أبى أن يقف أمام المصورين بحجة أن جسمه أقل أجزائه شأناً - وفي ذلك إشارة إلى الفن بأن يعنى بالروح لا بالجسم. وحرم على نفسه اللحم، ولم يأكل من الخبز إلا قليلاً. وكان بسيطاً في عاداته رحيماً في أخلاقه، ابتعد عن كل العلاقات الجنسية، وإن لم يذمّها. وكان تواضعه هو الخليق بالرجل الذي يرى الجزء في ضوء الكل. ولما حضر أرجن درسه علت وجه أفلوطينس حمرة الخجل وأراد أن يختم محاضرته فقال:"إن تحمس المحاضر يزول حين يحس بأن مستمعيه لا يجدون ما يتعلمونه منه"(٤٤). ولم يكن أفلوطينس خطيباً مصقعاً، ولكن عنايته الشديدة بموضوعه، وإيمانه بما يحدّث عنه قد عوضاه خير العوض عن البلاغة، ولم يسجل آراءه الفلسفية كتابة إلا متأخراً وسجلها مع ذلك وهو كاره ولم يراجع قط مسودته الأولى، ولا تزال الإنباذات رغم ما بذله برفيري من عناية في نشرها أكثر المؤلفات اضطراباً في تاريخ الفلسفة (١).
(١) وقد رتب برفيري هذه الرسائل الأربع والخمسين في تسع مجموعات زاعماً أن ٩ هو الرقم الكامل في نظرية فيثاغورس، لأنه مربع ٣ الثالوث الكامل الانسجام.