العناية الإلهية الرحيمة الخيرة؟ وقد أجاب سلفيان عن هذا السؤال بأن الآلام يقاسيها سكان الإمبراطورية إن هي إلا قصاص عادل لما كان متفشياً في العالم الروماني من استغلال اقتصادي، وفساد سياسي، واستهتار أخلاقي؛ ويؤكد لنا أنا لا نستطيع أن نجد بين البرابرة مثل ما نجده بين الرومان من ظلم الأغنياء للفقراء، لأن قلوب البرابرة أرق من قلوب الرومان؛ ولو أن الفقراء وجدوا وسيلة للانتقال لهاجروا بقضهم وقضيضهم ليعيشوا تحت حكم البرابرة (٢٢). يواصل هذا الواعظ الأخلاقي وصفه فيقول إن الأغنياء والفقراء، والوثنيين والمسيحيين، في داخل الإمبراطورية كلهم غارقون في حمأة من الفساد لا يكاد التاريخ يعرف لها مثيلاً؛ فالزنى، وشرب الخمر قد أصبحا من الرذائل المألوفة في هذه الأيام، كما أضحت الفضيلة والاعتدال مثار السخرية ومبعث الآلاف من الفكاهات القذرة؛ وصار اسم المسيح لفظاً تدنسه أفواه الذين يسمونه إلهاً (٢٣). ويمضي هذا التاستس Tacitus الثاني (١) فيدعونا إلى أن ننظر إلى الفرق بين هذا كله وبين ما يتصف به الألمان من قوة وشجاعة، ومن مسيحية مليئة بالتقي خالية من التعقيد، ومن لين في معاملتهم للرومان المغلوبين، ومن ولاء متبادل بينهم، ومن عفة قبل الزواج، ووفاء بعده. لقد ذهل جيسريك Gaiseric الزعيم الوندالي إذ وجد حين استولى على قرطاجنة المسيحية أنه لا يكاد يخلو ركن فيها من بيت للدعارة، فما كان منه إلا أن أغلق هذه المواخير وخير العاهرات بين الزواج والنفي. وجملة القول أن العالم الروماني سائر إلى الانحطاط جسيماً، وقد فقد كل ما كان يتصف به من شجاعة أدبية، وترك الدفاع عنه إلى الأجانب المأجورين. ويختتم سلفيان هذا الوصف بقوله إن الإمبراطورية الرومانية "إما أن اكون قد ماتت وإما أنها تلفظ آخر أنفاسها"؛ وإذ كنا نراها في ذروة ترفها وألعابها، فإنها تضحك حين تموت Moritur et ridet (٢٤) .