هذان الخصمان، أو إن شئت المجالدان الجديدان يومين كاملين في جدلهم أمام حشد كبير امتلأت به حمامات سوسيوس Socios. وفاز أوغسطين على مناظره، فغادر فرتوناتس هبو ولم يعد إليها أبداً (٣٩٢).
وبعد أربعة أعوام من ذلك الوقت طلب فليريوس إلى أتباعه أن يختاروا خلفه معللا طلبه هذا بشيخوخته، فأجمعوا أمرهم على اختيار أوغسطين، ولكنه عارض في هذا الاختيار وبكى، وتوسل إليهم أن يسمحوا له بالعودة إلى ديره، غير أنهم تغلبوا عليه؛ وطل الأربعة والثلاثين عاماً الباقية من عمره أسقفاً لهبو.
ومن هذه البقعة الصغيرة كان يحرك العالم. فبدأ عمله باختيار شماس أو شماسين، وجاء براهبين من ديره ليساعداه في عمله، وعاشوا جميعاً عيشة الدير الشيوعية في مسكنهم الكنسي، ولذلك استولت بعض الدهشة على أوغسطين حين رأى أحد أعوانه يترك حين وفاته ميراثاً لا بأس به (٥٩). وكانوا جميعاً يعيشون على الخضر ويبقون اللحم للأضياف والمرضى. وقد وصف أوغسطين نفسه بأنه قصير القامة، نحيل الجسم، ضعيف البنية على الدوام؛ وكان يشكو اضطراباً في الرئة، وكان شديد التأثر بالبرد. وكان مرهف الأعصاب، سريع التهيج، قوي الخيال مكتئبه، حاد الذهن، مرن العقل. وما من شك في أنه كان يتصف بكثير من الخلال المحبوبة رغم تمسكه الشديد بآرائه، وتعسفه في أحكامه الدينية، وعدم تسامحه في بعض الأحيان. وقبل كثيرون مما جاءوا ليأخذوا عنه فنون البلاغة زعامته الدينية، وظل أليبيوس من أتباعه إلى أخر حياته.
ولم يكد أوغسطين يجلس على كرسي الأسقفية حتى بدأ كفاحه الذي أستمر مدى الحياة ضد الدوناتية. فكان يتحدى زعمائهم ويدعوهم إلى المناقشة العلنية، ولكن لم يقبل دعوتهم إلا عدد قليل منهم، ثم دعاهم إلى مؤتمرات حبية، ولكنهم أجابوه بالصمت، ثم بالإهانة، ثم بالعنف، وشنوا هجوماً شديداً على عدد من الأساقفة الكاثوليك في شمالي أفريقية؛ ويبدو أن عدة محاولات قد