للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن الكثير من هذه المواعظ يبحث في موضوعات محلية، لا شأن لها بغير الوقت الذي قبلت فيه، ويبحث فيها بأسلوب بسيط يتفق مع عقلية الجماعات غير المتعلمة التي كانت تستمع إليه، ومع هذا كله فإن الكثير من هذه المواعظ يسمو إلى منزلة عليا من الفصاحة منشؤها عاطفته الصوفية القوية، والعقيدة الثابتة المتأصلة في أعماق نفسه، ولم يكن في وسع نفسه أن يحصر عقله في أعمال أبرشيته لأنه عقل دأب على العمل ومرن على منطق المدارس. وقد بذل غاية جهده فيما أصدره من الرسائل التي كان بعضها يأخذ برقاب بعض في أن يوفق بين العقل وبين العقائد عقائد الكنيسة التي كان يجهلها ويرى أنها دعامة النظام والأخلاق الفاضلة في هذا العالم الخرب المضطرب. وكان يدرك أن التثليث هو العقبة الكؤود في سبيل هذا التوفيق، ولهذا قضى خمسة عشر عاماً يعمل في أدق كتبه وأحسنها تنظيماً وهو كتاب التثليث De Trinitate الذي حاول فيه أن يجد في التجارب الإنسانية نظائر لثلاثة أشخاص في إله واحد، ومما حيره أكثر من هذه المسألة، وملأ حياته كلها بالدهشة والمجادلة، مشكلة التوفيق بين حرية الإرادة وعلم الله الأزلي السابق لأعمال الإنسان. فإذا كان علم الله يشمل كل شئ فهو يرى المستقبل بكل ما فيه، ولما كانت إرادة الله ثابتة لا تتغير فإن ما لديه من صورة للحوادث التي تقع في المستقبل يحتم عليها أن تقع وفقاً لهذه الصورة، فهي إذا مقررة من قبل لاتغير فيها ولا تغيير. فكيف والحالة هذه يكون الإنسان حراً في أعماله؟ ألا يجب على الإنسان إذن أن يعمل وفق ما هو سابق في علم الله؟ وإذ كان الله عليماً بكل شئ، فقد عرف منذ الأزل المصير الأخير لكل روح خلقها؛ فلم إذن خلق الأرواح التي قدر عليها اللعنة؟

وكان أوغسطين قد كتب في السنين الأولى من حياته المسيحية رسالة "في حرية الإرادة De libero arbitrio". حاول فيها وقتئذ أن يوفق بين وجود الشر وبين الخير الذي يتصف به الله القادر على كل شئ. وكان الحل الذي