في غمار هذه الفوضى لم يكد يكون للتعليم وجود، فلم يحل عام ٦٠٠ حتى كانت معرفة القراءة والكتابة ترفاً لا يتمتع به إلا رجال الدين، أما العلوم الطبيعية فقد انمحت أو كادت. وبقى الطب، لأنا نسمع عن وجود أطباء في حاشية الملوك، أما بين الشعب فقد كان السحر والصلاة في نظرهم خيراً من الدواء. وقد ندد جريجوري أسقف تور (٥٣٨؟ -٥٩٤) بمن يستخدمون الأدوية بدل الصلوات في علاج المرضى، وقال: إن هذا إثم يعذبهم عليه الله. ولما مرض هو أرسل يدعو إليه طبيباً، ولكنه سرعان ما صرفه لأنه لم ينفعه بشيء، ثم شرب قدحاً من الماء ممزوجاً بتراب جئ به من قبر القديس مارتن شفي على أثره شفاء تاماً (٥٦). وكان جريجوري هذا أشهر كتاب النثر في أيامه، وكان يعرف كثيرين من الملوك المروفنجيين معرفة شخصية، وكثيراً ما كانوا يستخدمونه في بعثات لهم. وقد روى في كتابه تاريخ الفرنجة قصة العصر المروفنجي المتأخر بطريقة فجة، مضطربة قائمة على الهوى والخرافة، ولكنه روى هذه القصة بأسلوب واضح، وكانت حوادثها مما شاهده بنفسه، ولغته اللاتينية فاسدة، قوية، خالية من الالتواء. وهو يعتذر عن أغلاطه النحوية، ويرجو ألا يعاقبه الله في يوم الحساب على ما ارتكبه من إثم بسبب هذه الأخطاء (٥٧). وهو يؤمن بالمعجزات وخوارق العادات، ويتصورها تصور الطفل الذي لا يخالجه فيها أدنى ريب أو يؤمن بها إيمان الأسقف الحصيف الماكر اللطيف ويقول:"وسنمزج في قصتنا معجزات القديسين بمذابح الأمم"(٥٨). ثم يمضي فيؤكد أن الأفاعي سقطت من السماء في عام ٥٨٧، وأن قرية قد اختفت فجأة بجميع مبانيها وسكانها (٥٩). وهو يشهر بكل شيء في أي إنسان لا يؤمن بالله أو يعمل ما يضر بالكنيسة، ولكنه يقبل ما يرتكبه أبناء الكنيسة المؤمنون من أعمال وحشية، وغدر، وخيانة، وفساد خلقي، ولا يجد في هذا ما تشمئز منه