وكانت أعمال الحكومة تشغل وقته كله، فقد كان يُعنى أشد العناية بكل صغيرة وكبيرة في شؤون التشريع والقضاء، والتنظيم المدني، والديني، والحزبي. وحتى التقويم نفسه قد عني بتنظيمه لأتباعه، فقد كان العرب يقسمون السنة كما يقسمها اليهود إلى اثني عشر شهراً قمرياً، وكانوا يضيفون إليها شهراً كل ثلاث سنوات لكي تتفق مع السنة الشمسية. فأمر النبي أن تكون السنة الإسلامية اثني عشر شهراً على الدوام كل منها ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون على التوالي، وكانت نتيجة هذا أن أصبحت السنة الإسلامية فيما بعد غير متفقة مع فصول السنة، وأن تقدم التقويم الإسلامي سنة كاملة على التقويم الجريجوري كل اثنتين وثلاثين سنة.
ولم يكن النبي مشرعاً علمياً، فلم يضع لأمته كتاباً في القانون أو موجزاً فيه، ولم يسر في تشريعه على نظام مقرر، بل كان يصدر الأوامر حسبما تمليه عليه الظروف. فإذا أدى هذا إلى شيء من التناقض أزاله بوحي جديد ينسخ القديم ويجعله كأنه لم يكن (١)، وحتى شؤون الحياة العادية كانت أوامره فيها تُعرض في بعض الأحيان كأنها موحى بها من عند الله. وكان اضطراره إلى تكييف هذه الوسيلة السامية بحيث تتفق مع الشؤون الدنيوية مما أفقد أسلوبه بعض ما كان يتصف به من بلاغة وشاعرية، ولكن لعله كان يشعر بأنه بهذه التضحية القليلة جعل كل تشريعاته
(١) من الصحيح أن الرسول لم يضع كتاباً في القانون، ولكن ليس صحيحاً أنه لم يسر في تشريعه على نظام مقرر، فإن القرآن بنصوصه وروحه العامة قد حدد أصول التشريع بصفة عامة، ثم كان الرسول بسنته مبيناً لهذا القرآن بالتفسير والإيضاح، ولهذا يقول الله تعالى في سورة النحل "وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ للِنَّاسِ مَا نُزَّلَ إلَيْهِمْ". أما النسخ فسببه أن لتشريعات الواردة في القرآن الكريم لم تنزل من الله دفعة واحدة، بل كانت رحمة من الله تنزل متدرجة تنبعاً للحالات: فيكون من الطبيعي أن يحصل فيها نسخ. على أن هذا كان في حالات قليلة معدودة. (ي)