للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من أمارات التقى والاستقامة أن يحن الإنسان إلى مسقط رأسهِ، ومن علامات النبل وكرم المحتد أن يبغض الانفصال عن داره وموطنه (١٩).

ووافته المنية في القاهرة بعد عشر سنين قضاها بعيداً عن بلدهِ.

وخير ما يقال عن هؤلاء المؤرخين أنهم يفوقون غيرهم في اتساع دائرة جهودهم، ونواحي نشاطهم، واهتمامهم، وأنهم يربطون الجغرافية بالتاريخ ربطاً موفقاً صحيحاً، وأنهم لا يفوتهم شيء مما يتصل ببني الإنسان، وأنهم يعلون علواً كبيراً على معاصريهم في العالم المسيحي. ولكنهم مع هذا كله كثيراً يضلون في دياجير السياسة، والحرب، والبلاغة اللفظية؛ وقلما يعنون ببحث العلل الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسانية التي تتحكم في الحوادث، وإن مجلداتهم الضخمة لتعزوها الطريقة البنائية المنتظمة، فلسنا نجد فيها إلا أكداساً من حقائق غير مرتبطة ولا متناسقة-عن الأمم، والحادثات، والشخصيات، وهم لا يرقون إلى مستوى بحث المصادر بحثاً (١) دقيقاً نزيهاً، ولشدة تقواهم وتمسكهم بالدين كانوا يعتمدون اعتماداً كبيراً على الإجماع وتسلسل الروايات تسلسلاً قد تكون مصدره حلقة من حلقاته خاطئة أو مخادعة. ومن أجل هذا تهبط قصتهم في بعض الأحيان إلى مستوى أقاصيص الأطفال، وتمتلئ بالنذر، وأخبار المعجزات، وبالأساطير. وكما أن في وسع كثيرين من المؤرخين المسيحيين (مع استثناء جبن Gibbon على الدوام) أن يكتبوا تاريخ العصور الوسطى، بحيث يجعلون الحضارة الإسلامية كلها ذيلاً موجزاً للحروب الصليبية، كذلك اقتضب كثيرون من المؤرخين المسلمين تاريخ العالم قبل الإسلام فجعلوه كله يدور حول الاستعداد لرسالة النبي محمد. على أننا نعود فنسأل أنفسنا كيف يستطيع العقل الغربي أن يصدر


(١) لا شك أن الكاتب ينظر إلى هؤلاء المؤرخين بعين هذه الأيام ويقيسهم بمؤرخي القرن العشرين. (المترجم)