والانتشار- حاشا أن نقول في حياة المسلمين. غير أن المسلمين، كما يلوح، كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين؛ فقد كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام ١٠٩٩، ولقد ظل القانون المسيحي يستخدم طريقة التحكيم الإلهي بالقتال أو الماء، أو النار، في الوقت الذي كانت الشريعة الإسلامية تضع فيه طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة مستنيرون. واحتفظ الدين الإسلامي، وهو أقل غموضاً في عقائده من الدين المسيحي، بشعائرهِ أبسط، وأنقى، وأقل اعتماداً على المظاهر المسرحية من الدين المسيحي، وأقل منه قبولاً لنزعة الإنسان الغريزية نحو الشرك. وهو شبيه بالمذهب البروتستنتي احتقاره ما يعرضه دين البحر المتوسط من عون للخيال والحواس وما يطلقه لهما من عنان، (ولكنه يستسلم للنزعة الجنسية في تصويره الجنة)(١). وقد ظل هذا الدين بعيداً كل البعد تقريباً عن النظم الكهنوتية، ولكنه قيد في الوقت الذي كانت فيه المسيحية مقبلة على أخصب عصور الفلسفة الكاثوليكية.
ويكاد تأثير العالم المسيحي في الإسلام يكون مقصوراً على بعض المظاهر الدينية وعلى الحرب. فأما من حيث المظاهر الدينية فأكبر الظن أن التصوف قد جاء إلى العالم الإسلامي من نماذج مسيحية، ومن الرهبنة، وعبادة القديسين. ولقد تأثرت النفس الإسلامية بقصة عيسى وشخصيته وظهرت في الشعر والفن الإسلاميين وكانت فيهما موضع العطف الكبير (١٢٠).
أما العالم الإسلامي فقد كان له في العالم المسيحي أثر بالغ مختلف الأنواع. لقد تلقت أوربا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية،
(١) لقد قال المؤلف من قبل، نقلاً عن بعض الفلاسفة، إن ما ورد في وصف الجنة من متع جسمية يجب ألا يؤخذ بحرفيته بل على أنه تقريب للمتع الروحية من أذهان الناس. (المترجم)