ولسنا نعرف كيف قضى أشور بانيبال نحبه. فأما القصة التي وضعها بيرُن في قالب مسرحية، والتي تقول أنه أشعل النار في قصره فهلك وسط اللهب، فإن مردها إلى كتسياس (٧٩) وهو مؤرخ مولع بإيراد كل ما هو غريب، وقد لا تكون إلا أسطورة من الأساطير. ومهما تكن ميتته فقد كانت نذيرا بما سيؤول إليه أمر بلاده ورمزا لآخرتها؛ لقد كانت هي الأخرى مقبلة على الفناء لأسباب بعضها من صنع يده. ذلك أن حياة أشور الاقتصادية كان جل اعتمادها على ما يصل إليها من خارجها، وقد أسرف ملوكها في الجري على هذه السياسة الحمقاء، فكان مصدر حياة البلاد هو الفتوح الخارجية التي تأتيها بالمال الوفير من الغنائم والمتاجر. وتلك سياسة تعرضها للخراب في أية لحظة إذا ما هزمت جيوشها في واقعة حاسمة. وسرعان ما أخذت الصفات الجسمية والخلقية. التي جعلت الجيوش الآشورية رهيبة لا تقهر في ميدان القتال، تضعف بتأثير الانتصارات التي نالها هؤلاء الجنود؛ ذلك أن كل واقعة تنتصر فيها أشور كان يهلك فيها أقوى جنودها وأبسلهم، فلا ينج من القتل إلا الضعاف والمترددون والحذرون يعودون إلى بلادهم ليكثروا من نسلهم، وتلك خطة مآلها إضعاف النسل، ولعلها كانت من أسباب ارتقاء الحضارة لأنها انتزعت من بلاد أشد الناس وحشية، ولكنها قوضت الأساس الحيوي الذي شادت عليه أشور قوتها. وكان اتساع فتوحها سببا آخر من أسباب ضعفها، ولم يكن إقفار الحقول وزراعها لإطعام إله الحرب النهم هو السبب الوحيد في هذا الضعف، بل كان له سبب آخر وهو أن فتوحها جاءت إليها بالأسرى وبملايين من الأجانب مملقين الذين تناسلوا كما يتناسل المعدمون البائسون، فلم يبقوا على شيء من الوحدة القومية في الجسم والخلق، وكانوا لكثرتهم المطردة قوة معادية تعمل على الضعف والانحلال بين الفاتحين أنفسهم. وأخذ هؤلاء الرجال القادمون من البلاد الأجنبية يزداد عددهم في الجيش نفسه، بينما كان الغزاة أنصاف الهمج يهاجمون البلاد من جميع أطرافها،