الاضطراب، وأحاطت الأباطرة والدولة بهالة من القداسة يرهبها التبديل. وقد أكسبتها البيروقراطية الخالدة بهيئتها الجامعة استمراراً واستقراراً لم تنل منهما جميع الحروب والثورات، وحافظت على السلام في الداخل، ونظمت اقتصادياتها، وجبيت الضرائب التي أمكنت الإمبراطورية من أن توسع رقعتها مرة أخرى حتى كادت تبلغ ما بلغته أيام جستنيان. وأكبر الظن أن موارد الخلافة الإسلامية كانت أقل من موارد الدولة البيزنطية وإن كانت أملاك الخلفاء أوسع رقعة من أملاك الأباطرة، ولقد كان ضعف نظام الحكومة الإسلامية، وقصور وسائل الاتصال ودولاب الإدارة عن الوفاء بحاجات الدولة، سبباً في تفككها بعد ثلاثة قرون من قيامها، على حين أن الإمبراطورية البيزنطية عاشت ألف عام.
وقد قامت الحضارة البيزنطية بثلاث مهام حيوية: أولها أنها ظلت ألف عام حصناً حصيناً وفي أوربا هجمات الفرس والدولة الإسلامية في المشرق، وثانيهما أنها احتفظت في أمانة بالنصوص التي أعيد فيها تسجيل آداب اليونان الأقدمين وعلومهم وفلسفتهم، وأسلمتها كاملة إلى أوربا حيث بقيت حتى نهبها الصليبيون في عام ١٢٠٤. وجاء الرهبان الفارون من وجه محطمي الصور والتماثيل المقدسة بالمخطوطات اليونانية إلى جنوبي إيطاليا، وأعادوا إلى هذه البلاد علمها القديم بالآداب اليونانية؛ وغادر الأساتذة اليونان مدينة القسطنطينية فراراً من المسلمين والصليبيين على السواء، واستقروا أحياناً في إيطاليا، وكانوا هم الحاملين لبذور الآداب القديمة؛ وهكذا أخذت إيطاليا عاماً بعد عام تستكشف بلاد اليونان من جديد، وظل الناس يغترفون من ينبوع الحضارة الذهنية حتى ثملوا. وثالثها وآخرها أن بيزنطية هي التي أخرجت البلغار والصقالبة من دياجير الهمجية إلى المسيحية، وصمت قوة الجسم الصقلبي التي لا حد لها إلى روح أوربا وحياتها ومصائرها.