بفضل مواعظه وقدوته الحسنة -وبفضل سلطانه في أغلب الظن- في أن يقضي على كثير من منازعات الأدواق، وتعاون مع "الهدنة الإلهية" في نشر ظل عهد ذهبي قصير الأجل على أوربا الوسطى. وقد ناصر العلوم، وأنشأ المدارس، وأتم كنائس اسبير، ومينز، وورمز. ولكنه لم يكن قديساً عمل للسلام الدائم، فقد ظل يحارب المجر حتى اعترفت له بالسيادة الإقطاعية عليها، وخلع ثلاثة من المتنافسين على البابوية، وعين اثنين من البابوات واحداً بعد الآخر، ولم يكن في أوربا كلها من يماثلها في سلطانه، ولكنه اندفع بسلطانه في آخر الأمر إلى الحد الأقصى فأثار بذلك مقاومة الأساقفة والأدواق جميعاً. غير أنه مات قبل أن تهب العاصفة، وخلف لهنري الرابع بابوية معادية، ومملكة مضطربة.
وكان هنري في الرابعة من عمره حين توج ملكاً في آخن وفي السادسة حين توفي أبوه وحكمت أمه واثنان من الأساقفة بالنيابة عنه حتى عام ١٠٦٥ حين أعلن أن الغلام وهو في الخامسة عشرة قد بلغ سن الرشد، فوجد نفسه وقد آلت إليه سلطة إمبراطورية كفيلة بلا ريب أن تذهب بعقل أس شاب، وأصبح بطبيعة الحال يؤمن بالسلطة المطلقة، ويسعى لأن يحكم البلاد على هذا الأساس. وسرعان ما وجد نفسه في خصام أو حرب مع هذا أو ذاك من النبلاء الذين كادوا لعجزه أن يقطعوا أوصال دولته. ذلك أن السكسون قد أغضبتهم الضرائب المفروضة عليهم، وأبوا أن يردوا أراضي التاج التي يدعيها لنفسه، وظل يحاربهم حرباً منقطعة دامت خمسة عشر عاماً (١٠٧٢ - ١٠٨٨)؛ ولما أن هزمهم في عام ١٠٧٥ أرغم قوتهم الكبرى ومن فيها من أشم النبلاء أنوفاً وكبار الأساقفة الحربيين أن يمشوا حفاة مجردين من السلاح بين صفين من جنده، ويقدموا مراسم الاستسلام عند قدميه وفي تلك السنة نفسها أصدر البابا جريجوري السابع مرسوماً يعارض به حق غير رجال الدين في تعيين الأساقفة أو رؤساء الأديرة، واستمسك هنري بالسوابق المتبعة منذ مائة عام، ولم يشك مطلقاً في أن تعيين هؤلاء وأولئك من