رب السماء، كان من وراء هذا كله موقع اليهود الذي تتهدده الأخطار، بين شقي الرحى، من فوقهم دول أرض الجزيرة ومن تحتهم مصر.
ويحدثنا تاريخ الأرض المناخي مرة أخرى أن صرح الحضارة صرح مزعزع، وأن عدويها الألدين- الهمجية والجدب- يترصدانها ليقضيا عليها. لقد كانت فلسطين في يوم من الأيام " أرضاً تفيض لبناً وعسلاً " كما تصفها كثير من الفقرات في أسفار موسى الخمسة (١)؛ وكان بوسفوس في القرن الأول بعد المسيح لا يزال يقول عن فلسطين وأهلها أن بها من "الأمطار ما يكفي حاجة الزراعة، وأنها جميلة، وأن بها كثيراً من الأشجار، وأنها مملوءة بفاكهة الخريف البري منها والمنزرع … ، وأن هذه الأشجار لا ترويها الأنهار رياً طبيعياً، ولكنها تنال معظم ما تحتاج إليه من الرطوبة من ماء المطر الذي لا ينقطع عنها قط"(٢). وكانت أمطار الربيع التي تسقي الأرض تخزن في الأيام الخالية في صهاريج أو ترفع إلى سطح الأرض مرة أخرى من آبار كثيرة العدد، وتوزع في أنحاء البلاد في شبكة من القنوات؛ وكان ذلك هو الأساس المادي للحضارة اليهودية. وكانت الأرض التي تروى بهذه الطريقة تنتج الشعير والقمح والذرة، وتجود فيها الكروم، وتثمر أشجارها الزيتون والتين والبلح وغيرها من الفواكه على منحدرات الجبال جميعها؛ فإذا داهمتها الحروب وخربت حقولها التي أخصبتها الصناعة، أو جاءها فاتح فأخرج منها إلى بلاد نائية الأسر التي كانت تعنى بهذه الحقول، زحفت الصحراء عليها فأفسدت في بضع سنين ما أصلحته الأيدي العاملة في أجيال. وليس لنا أن نحكم على جدب أرض فلسطين بما نشاهده فيها الآن من فياف مقفرة، وواحات قليلة ضئيلة، تواجه اليهود الذين عادوا الآن إلى تلك البلاد بعد ثمانية عشر قرناً من النفي والعذاب والتشريد.
والتاريخ في فلسطين أقدم مما كان يظنه الأسقف أسشر Ussher، فقد