ولم يترددوا في قديم ولائهم وخدماتهم إلى سيد يبسط عليهم حمايته القانونية أو دوق يستطيع قيادتهم. وخليق بنا أن ندرك ما عساه يتولاهم من الرعب لو أنه فهموا خضوعهم هذا؛ فها هم أولاء رجال أحرار لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم، يعرضون أرضهم وجهودهم على رجل قوي ويطلبون إليه في نظير ذلك أن يحميهم ويطعمهم؛ وكان من عادة البارون في هذه الأحوال أن يقطع "رجُلَه" مساحة من الأرض يحتفظ بها يعتقد يستطع واهبها أن يلغيه في أي وقت يشاء. وقد أضحى هذا التملك المزعزع الصورة المألوفة لامتلاك رقيق الأرض إياها، فكان الإقطاع بمقتضاه هو خضوع الرجل من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية إلى رجل أسمى منه منزلة في مقابل تنظيم اقتصادي وحماية عسكرية.
وليس من المستطاع تعريف الإقطاع تعريفاً جامعاً مانعاً، فقد كانت له صورة تبلغ المائة عدا في مختلف الأزمنة والأمكنة. وكان منشأه في إيطاليا وألمانيا، ولكن تطوره الخاص به إنما حدث في فرنسا. ولعله بدأ في بريطانيا بتحويل البريطانيين إلى أرقاء أرض على أيدي الفاتحين الأنجليسكسون (٣)، ولكن معظم خواصه في تلك البلاد قد جاء بها الغاليون من نورمندية، ولم ينضج هذا النظام الكامل في شمالي إيطاليا أو في أسبانيا المسيحية، ولذلك لم يستطع كبار الملوك في الإمبراطورية الشرقية أن يثبتوا دعائم استقلالهم العسكري والقضائي، أو إقامة نظام الولاء المتدرج الذي بدا في الغرب كأنه من مستلزمات الإقطاع. وبقيت أصقاع كبيرة من أوربا الزراعية خارج نطاق النظام الإقطاعي: كالرعاة وأصحاب الضياع الخاصة بتربية الماشية في بلاد البلقان، وشرقي إيطاليا، وأسبانيا؛ وزراع الكروم في غربي ألمانيا، وجنوبي فرنسا؛ والزراع الأشداء في السويد والنرويج؛ وطلائع التيوتون فيما وراء نهر الإلب؛ وأهل جبال الكريات،