المسيحيين هدية مثلها، وأجيب إلى ما طلب، وأعتق ألفاً آخرين، وحذا حذوه المطران المسيحي وفعل ما فعل صاحبه، وقال صلاح الدين إن أخاه قد أدى الصدقة عن نفسه، وإن المطران وباليان قد تصدقا عن نفسهما، وإنه يفعل فعلهما، ثم أعتنق كل من لم يستطع أداء الفدية من كبار السن؛ ويلوح أن نحو خمسة عشر ألفاً من الأسرى المسيحيين بقوا بعدئذ من غير فداء فكانوا أرقاء. وكان ممن افتدوا زوجات وبنات النبلاء الذين قتلوا أو أسروا في واقعة حطين. ورق قلب صلاح الدين لدموع أولئك النساء والبنات فأطلق سراح من كان في أسر المسلمين من أزواجهم وآبائهن (ومن بينهم جاي) أما "النساء والبنات اللاتي قتل أزواجهن وآباؤهن فقد وزع عليهن منه ماله الخاص ما أطلق ألسنتهن بحمد الله، وبالثناء على ما عاملهن به صلاح الدين من معاملة رحيمة نبيلة"(١) ذلك ما يقوله إرنول Ernoul مولى باليان.
وأقسم الملك والنبلاء الذين أطلق سراحهم ألا يحملوا السلاح ضده مرة أخرى، ولكنهم ما كادوا يشعرون بالأمن في طرابلس وإنطاكية المسيحيتين حتى أحلهما حكم رجال الدين من يمينهما المغلظة، وأخذ يدبرا الخطط للثأر من صلاح الدين (٢٣). وأجاز السلطان لليهود أن يعودوا إلى السكنى في بيت المقدس، وأعطى المسيحيين حق دخولها، على أن يكونوا غير مسلحين، وساعد حجاجهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم (٣٤)؛ وطهرت قبة الصخرة التي حولها المسيحيون إلى كنيسة بأن رشت بماء الورد، وأزيل منها الصليب الذهبي الذي كان يعلوها، بين تهليل المسلمين وأنين المسيحيين. وسار صلاح الدين على رأس جيشه لحصار عكا، ولما وجدها أمنع من عقاب الجو سرح الجزء الأكبر من جنده وانسحب وهو مريض متعب إلى دمشق (١١٨٨) في الخمسين من عمره.