لا يؤذون ولا يُهلِكون، في كل جبل قدسي يقول الرب" (١٣٥). ولعل الذي أوحى إلى هذا النبي فكرة وجود إله واحد للكون كله هو نهضة الفرس وانتشار قوتهم، وإخضاعهم دول الشرق الأدنى كلها، وجمعها في وحدة إمبراطورية أوسع رقعة وأحسن حكماً من أي نظام اجتماعي عرفه الناس من قبل. وهذا الإله لا يقول كما كان يقول يهوه:
"أنا الرب إلهك … لن تكون لك آلهة غريبة أمامي" بل يقول الآن: "أنا الرب وليس آخر لا إله سواي" (١٣٦)، ويصف النبي الشاعر هذا الإله العالمي في فقرة من أروع فقرات التوراة:
"من كان بكفه المياه، وقاس السموات بالشبر، وكال بالكير تراب الأرض، ووزن الجبال بالقبان، والآكام بالميزان … هو ذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان … هو ذا الجزائر يرفعها كَدُقّة … كل الأمم كلا شيء قدامه من العدم والباطل تحسب عنده. فبمن تشبهون الله؟ وأي شبه تعادلون به؟ … الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب، والذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن … ارفعوا إلى العلاء عيونكم، وانظروا من خلق هذه" (١٣٧).
وكانت ساعة من أروع الساعات في تاريخ إسرائيل حين دخل قورش بابل فاتحاً عالمياً بعد طول انتظار، وأباح لليهود أن يعودوا إلى أورشليم بكامل حريتهم. ولكنه خيب رجاء بعض الأنبياء أظهر ما كان في طباعه من حضارة أرقى من حضارتهم، إذ ترك بابل وشأنها ولم يمس أهلها بسوء، وأظهر خضوعه لآلهتها، وإن كان في الواقع خضوعاً مشكوكاً فيه. كذلك أعاد قورش لليهود ما كان باقياً في خزائن الدولة البابلية من الذهب والفضة اللذين اغتصبهما نبوخدنصر من الهيكل، وأمر الجماعات التي كان اليهود المنفيون يعيشون بينها أن تعينهم بالمال الذي يحتاجونه في أثناء رحلتهم الطويلة إلى وطنهم. ولم يتحمس شباب اليهود