كأنها ضرب آخر من مطاردة الصيد، لا تكاد تزيد عن مطاردة في خطرها؛ فإذا نضب معين الغابات ولم يعد يمدهم بما يشتهون من صيد، أو إذا ما قلت قطعانهم بسبب اضمحلال المراعي: فإن رجال الصيد والرعي عندئذ ينظرون بعين الحسد إلى حقول القرية بما تحوى من ثمار، وسرعان ما ينتحلون تبريرا للهجوم شأنهم في ذلك شأن المحدثين في استسهال هذا الانتحال؛ ثم يغزون فيغلبون فيسترقون فيحكمون (١) الدولة مرحلة متأخرة في سلم التطور لم تكد تظهر قبل عهد التاريخ المدون، لأن قيام الدولة يقتضي تغيرا في مبدأ التنظيم الاجتماعي من أساسه فيكون المبدأ هو أن يكون الحكم لمن يسيطر بدل أن يكون لذوي القربى كما كانت القاعدة السائدة في المجتمعات البدائية، وإنما يكون نظام السيطرة في أنجح حالاته إذا ما ربط عدة جماعات طبيعية مختلفة، بعضها ببعض برباط يفيدها من نظام وتجارة؛ وحتى وهو في هذه الحالة تراه لا يدوم طويلا إلا في القليل النادر، اللهم إلا إن كان تقدم في الاختراع قد زاد من قوة القوى بأن وضع في يديه أدوات وأسلحة تمكنه من كبت الثورة إذا اشتعلت؛ وفي حالة السيطرة الدائمة ترى مبدأ التسلط يميل إلى إخفاء نفسه حتى لا يكاد يدس نفسه في ثنايا اللاشعور؛ فلما ثار الفرنسيون سنة ١٧٨٩ م أوشكوا ألا يتبينوا - حتى ذكرهم بالحقيقة كاميل ديمولان Camille-Desmolins أن طبقة الأشراف كانت تحكمهم منذ ألف عام جاءتهم من ألمانيا وأخضعتهم لسلطانها بالقوة؛ حقا إن الزمن ليخلع على كل شيء مسحة من قدسية، حتى أخبث السرقات قمين أن يبدو في أيدي أحفاد اللص الذي سرق، مِلْكاَ مقدسا لا يجوز عليه
(١) هذا القانون ينطبق على الجماعة الأولى وحدها، لأنه حين تتعقد ظروف الحياة الاجتماعية، يتدخل في الأمر عوامل أخرى هي التي تحدد الموقف: كازدياد الثروة وجودة السلاح والتفوق في الذكاء، فمصر لم يغزها الهكسوس والأثيوبيون والعرب والأتراك فحسب وكلهم من البدو - بل غزتها كذلك مدنيات مستقرة من أشور وفارس واليونان وروما وإنجلترا - ولو أن هذه الأمم لم تغزها إلى حين انقلبت صائدة يدوية على نطاق الاستعمار الواسع.