ولهذا ظهر الصوفيون في كل عصر، وفي كل دين، وفي كل أرض، وامتلأت بهم المسيحية اليونانية رغم ما خلفته اليونان من تراث عقلي، وكان القديس أوغسطين ينبوع التصوف الذي نهل منه الغرب، وكانت اعترافاته بمثابة عودة الروح من الكائنات المخلوقة إلى الله. وقلما استطاع إنسان أن يطول تحدثه إلى الذات العلية كما طال تحدث أوغسطين إليها. وقد ناصر القديس أنسلم السياسي والقديس برنار المنظم، ذلك الاتصال الصوفي ليقاوم به النزعة العقلية التي كان يقول بها روسلن Roscelin وأبلار. ولما أخرج وليم الشمووي Wiliam of Champeaux من باريس بقوة منطق أبلار أنشأ في إحدى ضواحيها (١١٠٨) دير القديس فكتور St. Victor الأوغسطيني ليكون مدرسة للاهوات؛ وتجاهل خليفتاه هيو Hugh ورتشرد Richard خطر الفلسفة الناشئة الداهم، فلم يقيما قواعد الدين على الحجة والبرهان، بل أقاماها على الإحساس الصوفي بالحضرة الإلهية. فقد كان هيو (المتوفى عام ١١٤١) يرى في كل صورة من صور الخلق رمزاً قدسياً، وكان رتشرد (المتوفى عام ١١٧٣). يرفض المنطق والعلم، ويؤثر "القلب" على "الرأس" على طريقة بسكال، ويصف بمنطق العالم القدير السمو الصوفي للروح إلى مقام الذات العلية.
وأحالت عواطف إيطاليا القوية هذه النزعة الصوفية ثورة متأججة. وحدث أن تاقت نفس يواقيم الفلورائي Joachim of Flora - أو جيوفني دي يواقيمي دي فيوري Giovanni dei Joacchimi di Fiori - أحد نبلاء كلابريا Calabria إلى رؤية فلسطين، وتأثرت بما شاهده في طريقه من بؤس الناس، فصرف حاشيته، وواصل سيره كما يسير الحاج الذليل. وتقول إحدى القصص إنه قضى في سنة من السنين الصوم الكبير كله على جبل طابور، وأن هالة عظيمة تبدت له في يوم عيد القيامة، وملأته نوراً إليها فهم به لساعته كل ما جاء في الكتاب المقدس، وكل ما في المستقبل والماضي. فلما عاد إلى كلابريا أصبح راهبا وقسا سسترسيا.