فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح، لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً يزيد حزناً" (٢٥٦).
ولو أنه كان من مبادئ هذا الدين أن الرجل العادل يستطيع أن يتطلع إلى شيء من السعادة بعد الموت لكان في مقدوره أن يتحمل سهام مصائب الدهر وقلبه عامر بالأمل والشجاعة؛ ولكن كاتب سفر الجامعة "يحس" بأن هذا أيضاً وهم باطل، فالإنسان حيوان يموت كما يموت غيره من الحيوانات:
"لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما … فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه، لأنه من يأتي به ليرى ما سيكون بعده؟ … كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (٢٥٧).
إلا ما أغرب هذا تعليقاً على الحكمة التي يسبّح بحمدها سفر الأمثال! ولا شك في أن هذه الأقوال إنما تعبر عن الحضارة التي بلغت آخر مراحلها، فلقد نضب معين شباب إسرائيل في الكفاح المرير الذي قام بينها وبين الإمبراطوريات المحيطة بها، والتي لم ينقذها منها يهوه الذي كانت تعتمد على معونته، فلما تأزمت أمورها وافتقرت وتشتت رفعت إلى السماء في آدابها هذا الصوت وهو أشد الأصوات مرارة لتعبر به عن أعمق الشكوك التي طافت في يوم من الأيام بالنفس البشرية.
نعم إن أورشليم قد أعيد بناؤها، ولكنها لم تعد لتكون حصنا لإله لا يقهر، بل عادت لتكون مدينة تخضع للفرس حيناً ولليونان حيناً آخر. فقد وقف الإسكندر الشاب على أبوابها في عام ٣٣٤ ق. م، وطلب إلى تلك العاصمة أن