للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منهما جرعة من دماء عدوه (٤). ومات كيخسرو في السنة التالية بعد أن وسع رقعة دولته في خلال حكمه وحده فأصبحت إمبراطورية تشمل أشور وميديا وفارس بعد أن كانت خاضعة لسلطان غيرها. لكن هذه الإمبراطورية قضي عليها ولم يمض على وفاة هذا الملك جيل واحد.

وقد كانت هذه الدولة قصيرة الأجل، فلم تستطع لهذا السبب أن تسهم في الحضارة بقسط كبير، إذا ما استثنينا ما قامت به من تمهيد السبيل إلى ثقافة بلاد الفرس. فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدتها ستة وثلاثين، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين (٥)، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع. وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم في وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب؛ ودين زردشت وإلهيه أهورا- مزدا، وأهرمان، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من تماثل ما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن "شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ" (٦). أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر.

على أن انحطاط الميديين كان أسرع من نهضتهم نفسياً. فقد أثبت استياجس، الذي خلف أباه سياخار، ما أثبته التاريخ من قبل، وهو أن الملكية مغامرة لا تؤمن مغبتها، وأن الذكاء المفرط والجنون يتقاربان كل القرب في وراثة المُلك.

لقد ورث المُلك مطمئن القلب هادئ البال، وأخذ يستمتع بما ورث، وحذت الأمة حذو مليكها فنسيت أخلاقها الجافة الشديدة وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ذلك أن الثروة قد أسرعت إليها إسراعاً لم يستطع أهلها معه أن يحسنوا استخدامها، وأصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المترفة،