ثم أصبح بعدئذ كبير أساقفة صور؛ وتعلّم اللغات الفرنسية، واللاتينية واليونانية والعربية وقليلاً من اللغة العبرية؛ وكتب بلغة لاتينية سليمة كتاباً هو خير ما يعتمد عليه من المصادر في تاريخ الحملات الصليبية الأولى، وسمّاه تاريخ حوادث ما وراء البحار Historia reum in partibus transmarinis gestarum. وقد حاول فيه أن يفسّر الحوادث جميعها بالاستناد إلى الأسباب الطبيعية. وكانت نزاهته في تصوير أخلاق نور الدين محمود وصلاح الدين من أكبر أسباب عقيدة أوربا المسيحية في هذين العاهلين اللذين يخالفانها في الدين. وكان ماثيو باريس (حوالي ١٢٠٠ - ١٢٥٩) راهباً في دير سانت أولبنز، وشغل أولاً منصب مؤرخ لديره، ثم بعد ذلك منصب مؤرخ للملك هنري الثالث، واستعان بهذين المنصبين على تأليف كتابه التاريخ الكبير بلغة شيّقة ممتعة؛ وهو يروي الحوادث الهامّة التي وقعت في تاريخ أوربا بين عامي ١٢٣٥، ١٢٥٩. ويمتاز كتابه بالوضوح والدقّة، ولكن فيه تحيّزاً لم يكن متوقعاً منه؛ وندّد فيه "بالبخل الذي نفر الشعب من البابا"، وانحاز إلى فردريك الثاني ضد البابوية. وملأ صفحاته بأنباء المعجزات، وروى قصة اليهودي الجوّال (في عام ١٢٢٨)، ولكنه روى بصراحة تشكّك أهل لندن في انتقال بعض نقط من دماء المسيح إلى دير وستمنستر (١٢٤٧). ووضّح كتابه بعدّة خرائط لإنجلترا رسمها بنفسه، وهي خير ما رسم من الخرائط في ذلك الوقت، وربما كان هو الذي رسم أيضاً الأشكال التي وضّح بها كتابه. وإنّا لنعجب بجدة وغزارة علمه، ولكن الصورة التي رسمها للنبي محمد (١٢٣٦) تكشف عمّا يمكن أن يكون عليه رجل مسيحي متعلّم من جهل عجيب بالتاريخ الإسلامي.
أمّا أعظم المؤرخين في ذلك العصر فهما فرنسيان كتبا بلغتهما القومية، وكان لهما مع الشعراء الغزلين ورواة الملاحم وشعرائها الفضل في جعل اللغة الفرنسية لغة