وهذه الكرات هي "المساكن الكثيرة" التي فيها "بيت الأب". وقد ثبت في كل كرة كوكب وعدد كبير من النجوم، كما تثبت الجواهر في التاج. وكلما تحركت هذه الأجرام السماوية، وقد وهبت كلها ذكاءً ربانياً متفاوت الدرجات، أخذت تتغنى ببهجة سعادتها وتسّبح بحمد خالقها، وتغمر السماوات بموسيقى تلك الكرات. ويقول دانتي إن النجوم هي أولياء السموات الصالحون، وأرواح الناجين، ويختلف ارتفاعها عن الأرض باختلاف ما كسبت في عمل صالح في حياتها على ظهر الأرض، وبقدر هذا الارتفاع تكون سعادتها، ويكون قربها من أعلى السموات التي يقوم عليها عرش الله.
وكأن النور الذي تشعه بياتريس قد جذب دانتي فارتفع من جنة الأرض إلى الدائرة الأولى من دوائر السماوات وهي دائرة القمر؛ وفيها تستقر أرواح الذين اضطروا لغير ذنب ارتكبوه إلى الحنث بأيمانهم الدينية، ومن هؤلاء شخص يدعى بكاردا دوناتي Piccarda Donati. ويقول لدانتي إنهم في أسفل دائرة من دوائر السموات، وإنهم يستمتعون بقدر من النعيم أقل مما تستمتع به الأرواح التي فوقهم؛ وقد أنجتهم الحكمة الإلهية من كل حسد، وشوق، وتذمر؛ ذلك بأن جوهر السعادة هو الخضوع لإرادة الله خضوعاً مقروناً بالغبطة والسرور، لأن "في إرادته راحتنا"(٥٧). وهذا هو بيت القصيد في الملهاة المقدسة.
ويرقى دانتي مع بياتريس إلى السماء الثانية منجذباً إليها بقوة مغنطيسية سماوية تجذب كل شيء إلى الله. وهذه السماء الثانية هي التي يسيطر عليها الكوكب عطارد. وفيها يقيم الذين كانوا يقومون وهم على الأرض بنشاط عملي يبتغون به الخير، ولكنهم كانوا أكثر إنهِماكاً في الشرف الدنيوي منهم في خدمة الله. ويظهر من بين هؤلاء جستنيان، يصوغ في عبارات ملكية الوظائف التاريخية للإمبراطورية الرومانية والشريعة الرومانية. وعن طريقه يوجه دانتي ضربة أخرى يبغي عليها قيام عالم واحد، خاضع لشريعة واحدة،