بصور من هذه الرسائل، ولما تقدمت به السن كان يسلس كبرياءه بمراجعتها وإعدادها للنشر بعد وفاته. وتعد هذه الرسائل المصوغة في لغة لاتينية جزلة، ولكنها تضاهي لغة شيشرون، أهم ما بقى من آثار قلمه. وقد وجه في بعضها إلى الكنيسة نقداً بلغ من شدته أن أبقاها سراً فلم تنشر إلا بعد أن مات وأصبح آمناً على نفسه. ذلك أنه وإن قبل في إخلاص، كما يبدو للعيان، عقائد الكنيسة الكاثوليكية كاملة، كان يقيم بروحه مع الأقدمين: فكان يكتب إلى هوميروس، وشيشرون، وليفي، كأنهم رفاق له أحياء، ويتحسر لأنه لم يولد في أيام البطولة، أيام الجمهورية الرومانية. وكان من عادته أن يطلق اسم ليليوس Laelius على واحد ممن يراسلهم، وأسم سقراط على واحد آخر. وقد أوحى إلى أصدقائه أن يبحثوا عن المخطوطات الضائعة في الآداب اللاتينية واليونانية، وأن ينقلوا النقوش القديمة، ويجمعوا المسكوكات القديمة، لأنها وثائق تاريخية قيم. وحث ولاة الأمور على أن ينشئوا دور الكتب العامة. وكان يجعل نفسه قدوة فيعمل بما يدعو إليه: فكان في أسفاره يبحث عن النصوص الأدبية القديمة ويبتاعها لأنها "تجارة أعظم قيمة من كل ما يعرضه العرب أو أهل الصين "(٦)، وينقل بخط يده المخطوطات التي لا يستطيع شراءها، ولما عاد إلى موطنه استأجر النساخين وأسكنهم معه في داره. وكان يزدهي بنسخة من هوميروس أرسلت إليه من بلاد اليونان، ورجا مرسلها أن يبعث اليه بنسخة من مؤلفات يوربديز. وكان يصحب معه أينما رحل النسخة التي لديه من أشعار فرجيل، ويسجل على الصفحة الأولى منها الحوادث البارزة في حياة أصدقائه. ولسنا ننكر أن العصور الوسطى قد حافظت على كثير من الآداب الوثنية القديمة، وأن بعض الدارسين في تلك العصور قد أولعوا بهذه الآداب، ولكن بترارك عرف من إشارات عثر عليها في هذه المؤلفات أن روائع لا حصر لها قد نسيت أو وضعت في غير المكان اللائق بها، وجعل همه الكشف عنها.