للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دائماً مجالس تقضي كما يقضي القضاة، بل كثيرا ما كانت مجالس لإصلاح ذات البين، فكانت تصل بالمتخاصمين إلى حل يرضيهما معاً بصورة ودية (١)؛ ولبث الالتجاء إلى المحاكم اختيارياً لدى كثير من الشعوب مدى قرون طوال، وكان المعتدى عليه إذا لم يُرْضه الحكم الصادر في شأنه، يباح له أن يأخذ ثأره بيده (٢٢).

وفي حالات كثيرة كان البت في أمر الخصومات يتم في صورة عراك يجري على مرأى من الناس بين المتخاصمين، وكان هذا العراك يختلف في مدى إراقته للدماء، من مباراة في الملاكمة لا يترتب عليها شيء من الأذى - كما هو الحال بين الإسكيمو الحكماء - إلى مبارزة تنتهي بالموت؛ وكثيراً ما لجأ البدائيون إلى اصطناع المحنة في فض مشكلاتهم، غير أنهم لم يقيموها على أساس النظرية التي سادت في القرون الوسطى بأن الله سيكشف عن المجرم عن طريق المحنة بقدر ما أقاموها على أساس من أمل بأن المحنة مهما بلغت من بعدها عن العدل، ستختم نزاعاً قد تضطرب له القبيلة أجيالا عدة إذا لم يلجأ في فضه إلى المحنة ومن أمثلة ذلك أن المتَّهِمَ والمتَهَمَ كليهما يطلب إليهما أن يختار كل منهما صحفة طعام من بين صحفتين إحداهما مسمومة، وقد ينتهي هذا الاختيار بأن يأخذ الصحفة المسمومة من هو بريء (والعادة ألا يكون أثر السم مما يستحيل الخلاص منه) لكن الخصومة تنتهي بهذا، ما دام الفريقان يعتقدان في غير إرغام بعدالة مبدأ المحنة؛ وقد كانت العادة عند بعض القبائل أن المذنب إذا اعترف بذنبه مد ساقه للمعتدى عليه ليطعنها برمحه؛ أو يُطْلب إلى المتهم أن يصمد للرماح يقذفه بها متهموه، فإذا أخطأته الرماح جميعاً، أعلنت براءته، أما إذا أصابه ولو رمح واحد، حكم بإدانته وفُضَّ الخلاف (٢٣).

وهكذا هبط مبدأ المحنة خلال العصور، بادئاً من تلك الصور البدائية إلى


(١) بعض المدن الحديثة جداً تحاول اليوم أن تحيي هذا النظام القديم الذي يوفر الوقت.