بل كان الذي حررها هو النزعة الزمنية غير الدينية التي انبعثت من نشأة الطبقات الوسطى، وقيام الجامعات، وانتشار العلم والفلسفة، وما أثمرته دراسة القانون من تقوية الأذهان وتوجيهها وجهة واقعية، وما أدى إليه ازدياد العلم بالعالم من اتساع أفق العقل ومجاله. وارتاب الإيطالي المتعلم في قواعد الكنيسة التعسفية، ولم يرهبه الخوف من نار الجحيم، ورأى رجال الدين منهمكين في ملاذ الدنيا انهماك غيرهم من الناس، فحطم بذلك الإيطالي المتعلم الأغلال العقلية والخلقية، وتحررت حواسه من تلك القيود، فابتهجت في غير حياء بكل ما يمثل الجمال في المرأة، والرجل، والفن، وجعلته هذه الحرية الجديدة مبدعا خلاقا خلال قرن من الزمان عجيب (١٣٤٣ - ١٥٣٤)، قبل أن يقضي عليه مما انتشر فيه من فوضى أخلاقية، ونزعة فردية انحلالية، واسترقاق قومي، وكانت الفترة الواقعة بين العهدين هي النهضة.
ترى لم كان شمالي إيطاليا أو الأقاليم التي شهدت هذه اليقظة المزدهرة؟ الجواب عن هذا أن العالم الروماني لم يكن قد قضى عليه في هذا الجزء قضاء تاما، بل ظلت البلدان محتفظة فيه بكيانها القديم وذكرياتها القديمة، وأخذت وقتئذ تجدد قانونها الروماني. وكان الفن القديم قد بقى حيا في رومة، وفيرنا، ومانتوا، وبدوا، وكان مجمع الآلهة الذي أقامه أجربا Agrippa لا يزال يتخذ مكاناً للعبادة، وإن كان قد مضى عليه أربعة عشرة قرنا من الزمان، وفي السوق العامة يكاد الإنسان يسمع شيشرون وقيصر يتناقشان في مصير كاتلين Catiline. كذلك كانت اللغة اللاتينية لغة حية، ليست اللغة الطليانية إلا لهجة منها مرخمة. وبقيت الأرباب، والأساطير، والطقوس الوثنية، مائلة في ذاكرة الجماهير، أو قائمة في صور مسيحية وإيطالية تعترض البحر المتوسط، وتشرف على حوضه الذي قامت فيه الحضارة والتجارة القديمتان. كذلك كان