وسبب ذلك أن هذه الجامعات كانت في أيامهم قد تقادم عهدها في إيطاليا، وأن كليات الحقوق، والطب، والدين، «والفنون» -أي اللغة، والأدب، والبيان، والفلسفة-القائمة في بولونيا، وبدوا وبيزا، وبياتشندسا، وبافيا، ونابلي، وسينا، وأرتسو، ولوكا، نقول كانت الكليات القائمة في هذه المدن قد استحوذت عليها عادات العصور الوسطى استحواذا يرد عنها كل توكيد جديد للثقافات القديمة. وكان أكثر ما فعلته أنها أنشأت في أماكن متفرقة كرسيان للبيان عينت فيه أحد هؤلاء الإنسانيين. أما ما كان لإحياء «الآداب» من أثر فقد جاء أكثره عن طريق المجامع العلمية التي أنشأها أنصار الأدب من الأمراء في فلورنس، ونابلي، والبندقية، وفرارا، ومانتوا، وميلان وروما. فقد كان الإنسانيون في تلك المدن يملون ما يريدون مناقشته من النصوص القديمة باللغة اليونانية أو اللاتينية، وكانوا في خلال هذا النقاش يعلقون باللغة اللاتينية على ما يتصل بهذه النصوص من مظاهر النحو، والصرف، والبيان، والسير، والجغرافية، والأدب،. وكان طلابهم يدونون ما يملونه عليهم من النصوص ويثبتون في هوامش الصفحات كثيراً من الحواشي والتعليقات، وبهذه الطريقة تضاعفت تسخ الآداب القديمة كما تضاعف شروحها وانتشرت في أنحاء العالم. ومن أجل ذلك كان عهد كوزيمو عهد الانهماك في التعليم لا الانهماك في الأدب المبتكر الخلاق، فانحصرت أمجاد ذلك العصر الأدبية في النحو، والمعاجم اللغوية، وعلم الآثار القديمة، والبيان، والمراجعة الانتقادية للنصوص القديمة. وهكذا استقرت طريقة التبحر الحديث في العلم، وأداته، ومادته، ومهد الطريق الذي سار فيه تراث اليونان وروما حتى وصل إلى عقول المحدثين.
ولم يبلغ العلماء منذ عهد السوفسطائيين مثل ما بلغوه وقتئذ من المنزلة العالية في المجتمع وفي الشئون السياسية، ذلك أن الكتاب الإنسانيين صاروا أمناء ومستشارين لمجالس الشيوخ، والأمراء، وألأدواق، والبابوات،