للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يستوقف أسماع العالم اليوم، ولها من رجال الفن من شيدوا لها المعابد الجبارة لآلهة الهندوس، تراها منتشرة من التبت إلى سيلان؛ ومن كامبوديا إلى جاوة، أو مَن زخرفوا القصور الرائعة بالعشرات لملوك المغول وملكاتهم- تلك هي الهند التي يفتح لنا أبوابها البحثُ العلمي الدءوب، كأنها قارة عقلية جديدة يفتتحها البحث العلمي أمام العقل الغربي الذي كان بالأمس يظن أن المدنية نتاج أوربي خالص لا يشاركها فيه بلد آخر (١).


(١) منذ عهد المجسطي الذي وصف الهند لليونان حوالي سنة ٣٠٢ ق. م حتى القرن الثامن عشر، ظلت الهند في عيني أوربا أعجوبة ولغزاً غامضاًً، فلقد صور ماركو بولو (١٢٥٤ - ١٣٢٣) حافتها الغربية تصويراً غامضاًً، وعثر كولمبس على أمريكا في محاولته بلوغ الهند، وأبحر فاسكودا جاما حول أفريقيا ليعيد كشف الهند، وأطلقت ألسنة التجار في جشع تتحدث عن "ثروة جزائر الهند" أما العلماء فقد تركوا هذا المنجم وأوشكوا ألا يطرقوه، ثم افتتح لهم الطريق مبشر هولندي ذهب إلى الهند، هو "أبراهام روجر" بكتابه "باب مفتوح إلى الوثنية الخبيثة" (١٦٥١)؛ وبرهن "دريدن" على يقظته للعالم حين كتب مسرحيته "أورنجزيب" (١٦٧٥) وبعدئذ جاء راهب نمساوي، هو "فرا باولينو دي س. بارتلوميو" فخطا بالموضوع خطوة بكتابين في قواعد اللغة السنسكريتية، ورسالة في "النظام البرهمي" (١٧٩٢) (١ أ)، وفي سنة ١٧٨٩ بدأ "سير وليم جونز" سيرة حياته كعالم عظيم في شئون الهند، بترجمته لـ "شاكنتالا" وهي من تأليف "كاليداسا" وقد أعيدت هذه الترجمة إلى اللغة الألمانية سنة ١٧٩١، فكان لها أعمق الأثر على "هردر" وجيته بل وعلى الحركة الابتداعية كلها بفضل أبناء شليجل؛ تلك الحركة التي تعلق رجاؤها بالشرق تلتمس عنده كل التصوف وكل الغموض الذي يظهر أن قد محاه من الغرب دخول العلم وموجة التنوير، ولقد أدهش "جونز" دنيا العلم حين أعلن أن اللغة السنسكريتية متحدة في أصولها مع لغات أوربا، ودليل ناهض على قرابتنا الجنسية بالهندوس أصحاب الفيدا؛ وتكاد هذه النتائج التي أعلنها تكون البداية الأولى لعلم اللغات وعلم أصول الأجناس البشرية الحيدثين، وفي سنة ١٨٠٥ كتب "كولبرول" مقالاًً "في الفيدات" كشف به لأوربا عن أقدم ما جرى به الأدب الهندي، وحول الوقت نفسه ترجم "أنكتيل دبرون" أسفار "يوبانشاد" عن ترجمة فارسية، فاطلع عليها "شلنج" و "شوبنهور" وقال عنها الأخير أنها أعمق ما قرأ من فلسفة (٢)، وكادت البوذية ألا يعرفها أحد باعتبارها فلسفة فكرية حتى نشر "برنوف" مقالته "في اللغة البالية" (١٨٢٦) - أي اللغة التي كتبت بها وثائق البوذية؛ وبفضل "برنوف" في فرنسا، وتلميذه "ماكس مولر" في إنجلترا، تحرك العلماء ومهدوا السبيل إلى ترجمة كاملة "للكتب المقدسة في الشرق" وخطا "رايس ديفدز" بالمهمة خطوة إلى الأمام حين خصص كل حياته لعرض الأدب البوذي، وبفضل هذه المجهودات وبالرغم منها، تبين لنا أننا لا نعرف عن الهند إلا ما يصح أن نسميه ببداية المعرفة؛ فإلمامنا بأدبها يشبه في ضآلته إلمام أوربا بالآداب اليونانية والرومانية أيام شرلمان، وترانا اليوم وقد بهرنا الكشف الجديد نسرف في سخاء حين نقدر قيمة ما كشفنا عنه، فيعتقد فيلسوف أوربي أن "حكمة الهند أعمق ما عرف العالم من حكمة" وكتب كاتب قصصي عظيم يقول: "إني لم أصادف في أوربا أو أمريكا من الشعراء أو المفكرين أو الزعماء الشعبيين من يساوى، بل لم أجد من يصح أن يقارن بما نراه في الهند اليوم من هؤلاء وأولئك".