العنيفة، فيه روح باحثة متقصية، وفيه وحي وإلهام، ولم يكشف قط فيما بعد فنان في صورة واحدة عن مثل هذا العدد الجم من النفوس. وقد أعد ليوناردو للرسل عددا لا يحصى من الرسوم المبدئية التخطيطية، بعضها- كصورة يوحنا الأكبر، وفيليب، ويهوذا الأسخريوطي- رسوم بلغت من الرقة والقوة درجة لا تضارعها إلا رسوم رمبرانت Rembrandt وميكل أنجلو. ولما أراد ليوناردو أن يتخيل ملامح المسيح، وجد أن الرسل قد استنفذوا مصادر إلهامه كلها، ويقول لوماتسو Lomazzo ( وقد كتب في عام ١٥٥٧) إن دسينالي Zenale صديق ليوناردو القديم أشار عليه بأن يترك وجه المسيح ناقصا وقال له: "إن من المستحيل حقا أن يتصور الإنسان وجوها أجمل وأرق من وجه يوحنا الأكبر أو يوحنا الأصغر. فارض إذن بسوء حظك، وأترك مسيحك ناقصا لأنك لو أتمتته لما كان إذا قورن بوجوه الرسل منقذهم أو سيدهم"(٩). وعمل ليوناردو بهذه النصيحة، ورسم هو أو أحد تلاميذه رسما تخطيطيا لرأس المسيح (هو الآن في معرض بريرا Brera) ؛ ولكنه يمثل حزنا واستسلاما خليقين بالنساء، بدل أن يمثل العزيمة التي دبت في هدوء في قلب جشمان Gethsemane، ولعل ليوناردو يعوزه التقي وتعظيم المقدسات، ولو أنهما كانا له وأضفيا إلى حسه المرهف، وعمق تأثره، وحذقه لجاءت صورته أقرب إلى الكمال.
وإذ كان ليوناردو مفكرا وفنانا معا، فقد كان يتجنب التصوير على الجص لأنه في اعتقاده لا يتفق مع التفكير بحال. ذلك أن التصوير على المواد الطرية وعلى الجص الموضوع توا لابد أن يكون سريعا قبل أن يجف. وكان ليوناردو يفضل التصوير الزلالي (١) على جدار جاف- أي التصوير بألوان ممزوجة بمادة هلامية، لأن هذه الطريقة تتيح له فرصة التفكير والتجربة. غير أن هذه الألوان لا تلتصق بقوة على السطح الذي توضع