وقد استبق ليوناردو القائلين بأن التصوير لا يعرف إلا بممارسة التصوير، وهو يظن أن المعرفة الطيبة بالنظريات تساعد الفنان في عمله؛ ويسخر من ناقديه ويقول إنهم أشبه "بأولئك الذين قال فيهم دمتروس إنه لا يعنى بالريح التي تخرج من أفواههم اكثر من عنايته بالتي يخرجونها من أجزائهم السفلى". وفكرته الأساسية هي أن من واجب طالب الفن أن يدرس الطبيعة لا أن ينقل رسوم غيره من الفنانين:"احرص أيها الفنان حين تذهب إلى الحقول على أن توجه عنايتك إلىما فيها من أشياء مختلفة، فعليك أن تدقق النظر إلى هذا الشيء أولا ثم إلى داك، وأن تجمع طائفة من الأشياء المختلفة اخترتها من بين أقلها قيمة"(٣٨). وهو يرى بطبيعة الحال أن لابد للفنان من أن يدرس التشريح، وفن المنظور، واستخدام الضوء والظلال، ويقول إن الحدود المعينة تعيناً تظهر الصورة كأنها قطعة من خشب:"واحرص على الدوام على أن ترسم الصورة بحيث لا يتجه الصدر إلى الناحية التي يتجه إليها الرأس"(٣٩)، وذلك سر من أسرار الرشاقة التي نشاهدها في تأليف ليوناردو. ثم يقول آخر الأمر:"ارسم الصور وفيها من الأفعال ما يكفي لأن يظهر ما يدور بخلد صاحبها"(٤٠). ترى هل نسي هذا وهو يرسم موناليزا، أو هل غالى في قدرتنا على أن نقرأ الروح التي تطالعنا في العينين والشفتين؟
ويظهر ليوناردو الرجل في رسومه أوضح وأكثر مراراً مما يظهر في صوره الملونة أو مذكراته. وهذه الرسوم لا يحصى عددها، ففي إحدى المخطوطات وحدها- كودبتشي أطلنطيكو- الموجودة في ميلان ألف وسبعمائة رسم. وكثير منها تخطيطات أولية سريعة، وكثير منها آيات فنية تحملنا على أن نضع ليوناردو في صف أقدر رسامي النهضة، وأدقهم، وأكثرهم تعمقاً، وليس في رسوم ميكل أنجيلو أو رومبرانت ما يضارع صورة العذراء، والمسيح، والقديسة آن المحفوظة في بيت بيرلجتن وكان ليوناردو