للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيه؛ وما من شك في أنه كان في مدرسة الطب رجال يعرفون فن التشريح أكثر مما يعرف هو؛ ولقد تمت أعظم الأعمال الهندسية في إقليم ميلان قبل أن يجئ ليوناردو؛ وخلف رفائيل وتشييان مجموعة من الصور الجميلة أكثر مما بقي لدينا من رسوم ليوناردو؛ وكان ميكل أنجيلو أعظم منه في فن النحت، كما كان مكيفلي وجوتشيارديني Guicciardini أعمق منه تفكيراً. ومع هذا فأكبر الظن أن دراسات ليوناردو للحصان كانت خير دراسات في التشريح حتى ذلك اليوم. ولقد اختاره لدوفيكو وسيزاري بورجيا مهندساً لهما وآثراه على جميع رجال إيطاليا؛ وليس في صور روفائيل أو تيشيان، أو ميكل أنجلو ما يضارع صورة العشاء الأخير لليوناردو؛ وليس بين المصورين من بلغ مبلغ ليوناردو في دقة التدرج في الألوان تدرجاً غير محس، أو في التصوير الدقيق للمشاعر والأفكار والحنان الوجداني، ولم يقدر تمثال من تماثيل ذلك العصر بالدرجة التي قدر بها تمثال اسفوردسا الجصي، وليس في الصور كلها صورة تفوق صورة العذراء والطفل والقديسة آن؛ وليس في فلسفة النهضة ما يعلو على إدراك ليوناردو لماهية القانون الطبيعي.

ولم يكن هو نموذج ((رجل النهضة)) لأنه كان من أكثر ذلك الطراز دقة ودماثة، وكان مسرفاً في الانطواء على نفسه، وأرق أخلاقاً من أن يمثل عصراً شديد العنف والسلطان في القول والعمل. كذلك لم يكن هو ((الرجل الجامع)) للكفايات، لأن صفات الحاكم أو الإداري لم يكن لها مكان في مواهبه المتعددة، ولكنه كان رغم قصوره ونقائصه أكمل رجل في النهضة، بل لعله كان أكمل رجل في جميع العصور. وإذا ما فكرنا فيما قام به من جلائل الأعمال، أدهشتنا المسافة الشاسعة التي بعد بها هذا الرجل عن نشأته، وتجدد إيماننا بما يستطيع الجنس البشري أن يبلغه.