حتى لقد بلغت الهند من التقدم في عهد هذين الملكين ذروة لم تكن قد جاوزتها منذ بوذا، كما بلغت في وحدتها السياسية مبلغاً لم تبلغ مثيله إلا في عهد "أشوكا" وعهد "أكبر".
ونستطيع أن نتتبع الخطوط الرئيسية في مدنية "جوبتا" من الوصف الذي قدمه "فارهين" عن زيارته للهند في مستهل القرن الخامس الميلادي؛ وهو أحد البوذيين الكثيرين الذين جاءوا من الصين إلى الهند إبان هذا العهد الذهبي من تاريخها؛ بل إن هؤلاء الحجاج الدينيين كانوا على الأرجح أقل عدداً من التجار والسفراء الذين طفقوا حينئذ- رغم ما يحيط بالهند من حواجز الجبال- يفدون إليها وقد اشتملها السلام، يفدون إليها من الشرق والغرب، بل يفدون إليها من روما النائية؛ وكانوا في وفودهم إليها يجتلبون معهم عاداتهم وأفكارهم، فسرعان ما تكون هذه الأفكار وتلك العادات الواردة من خارج حافزاً للبلاد على التغيير في أوضاعها؛ جاءها "فا- هين" فألفى نفسه، بعد أن تعرضت حياته للخطر أثناء مروره في الجزء الغربي من الصين، آمناً في الهند أمناً لا يأتيه الخطر من أية ناحية من نواحيه، فجعل ينتقل في طول البلاد وعرضها، دون أن يصادفه من يعتدي عليه بالإيذاء أو بالسرقة (٤٥)؛ وهو يحدثنا في يومياته كيف استغرق في طريقه إلى الهند ستة أعوام، وأنفق في ربوع الهند ستة أعوام، ثم عاد إلى وطنه في الصين عن طريق سيلان وجاوه في ثلاثة أعوام (٤٦).
وإنه ليصف لنا وصفاً يعبر به عن إعجابه بما كان للشعب الهندي من ثروة وازدهار وفضيلة وسعادة، ومن حرية دينية واجتماعية؛ ولقد أدهشته المدن الكبرى بكثرتها وحجمها وعدد سكانها، كما أدهشته المستشفيات المجانية وغيرها من مؤسسات الإحسان التي امتلأت بها أرجاء البلاد (١)؛ وعجب
(١) سبقت هذه المستشفيات أول مستشفى شهدته أوروبا بثلاثة قرون، وأعني به "ميزون ديية Maison Dieu" الذي بنى في باريس في القرن السابع الميلادي.