ستين. وحاول أن يحب حياة الدير جهد استطاعته بل إنه كتب مقالا بعنوان: De contemptu mundi " تأملات في الوجود"، ليقنع نفسه بأن الدير هو المكان المناسب لصبي له روح متعطشة ومعدة منهوكة ولكن معدته أرهقها الصيام وأصابها الغثيان حينما كانت تُشَم رائحة السمك. ومع ذلك فإن العهد الذي قطعه على نفسه بالخضوع أثبت أنه أشد قساوة من نذره العفة، ومن يدري؟ لعل مكتبة الدير كانت تعوزها الكلاسيات. وأشفق عليه رئيس الدير وأعاره ليعمل كاتب سر لهنري البرجيني أسقف كمبراي. وقبل أرازموس عندئذ (١٤٩٢) أن يرسم قساً ولكنه أينما اتجه نازعته نفسه إلى أن يضع قدمه على مكان آخر. كان يحسد الذين التحقوا بالجامعة بعد إنهاء تعليمهم المحلي. وكانت باريس تفوح بشذا العلم والهوى الذي قد يسمم الحواس المرهفة عبر مسافات بعيدة. وأغرى ديزيديريوس الأسقف على إرساله إلى جامعة باريس بعد أن خدمه بكفاءة بضع سنوات وانطلق وليس معه إلا ما يقوم بأوده. وكان ينصت في صبر نافذ إلى المحاضرات ولكنه كان يلتهم الكتب. وكان يشهد المسرحيات والحفلات وينقب بين الفينة والفينة عن المفاتن الأنثوية، ويقول في إحدى محاوراته أن ألطف طريقة لتعلم الفرنسية هي أن تتلقاها عن بنات الليل ومع ذلك فقد أغرم بالأدب .. أغرم بتلك الكلمات الموسيقية السحرية التي تفتح بابا يلج منه المرء إلى عالم الخيال والبهجة. وعلم نفسه اليونانية وأصبحت أثينا أفلاطون ويوروبيدس وزينون وأبيقوروس مألوفة لدية مثل روما سيشرون وهوراس وسينيكا فكلا المدينتين كانتا حقيقتين بالنسبة له مثلهما في ذلك مثل شاطئ السين الأيسر. وكان سينيكا في نظره مسيحياً صالحاً مثل سانت بول ونمطياً أحسن منه (وهي وجهة نظر لعله لم يكن فيها سليم الذوق تماما) ورحل باختياره في غمرات الماضي واكتشف لورنزو فالا، فولتير نابولي واستطاب طعم اللاتينية الأنيقة والجرأة المتهوسة اللتين تسم تكفله بهما بكشف زيف قصة "هبة قسطنطين" وقد لاحظ