نفوسنا نحن متشبعة بالروح الدينية. وإننا لنسمع اليوم موسيقاه في وضعها السليم بوصفها جزءاً من طقوس مهيبة، وحتى في هذه الطقوس قد تتركنا جوانبنا الفنية مشدوهين أكثر منا متأثرين. وبالمعنى الحرفي، أي في واقع الأمر، إن الوضع الصحيح لا يمكن أن يعود أبداً، لأن موسيقى بالسترينا كانت موسيقى الإصلاح الكاثوليكي، فهي النغمة الكئيبة للنكسة الصارمة ضد الابتهاج الحسي في النهضة الوثنية، أو قل هي ميكل أنجيلو باقياً على قيد الحياة بعد رافائيل، أو بول الرابع يحل محل ليو العاشر، أو ليولا يحل مكان بمبو، أو كلفن يخلف لوثر. إن ترشيحاتنا المعاصرة ليست إلا معياراً عابراً غير معصوم من الخطأ، وذوق الفرد- وخاصة إذا أعوزته القدرة الفنية والتصرف والإحساس بالخطيئة- إنما هو أساس واه نقيم عليه مقياساً للحكم في الموسيقى واللاهوت. ولكن نستطيع أن نتفق جميعاً على أن بالسترينا، بلغ بفن "تعدد الأصوات" الديني درجة الكمال، في عصره. وأنه، مثل معظم كبار الفنانين، وقف على قمة حد من التطور في الإحساس والتقنية، وتسلم تقليداً فأتمه وأكمله، لقد ارتضى النظام، وعن طريقه وزد موسيقاه بتركيب وبنية، أو رسوخاً معمارياً في وجه أعاصير التغيير الهوجاء. ومن يدري، فربما جاء عصر ليس ببعيد، أرهقته أصوات الأوركسترا العالية الطنانة ورومانسيات الأوبرا- ليجد في موسيقى مثل موسيقى بالسترينا عمقاً في الإحساس، وانسياباً عميقاً هادئاً في الألحان، يصلحان بطريقة أفضل للتعبير عن النفس الإنسانية المتطهرة من غرور العقل والقوة، رابضة مرة ثانية، في تواضع وخشوع وخشية، أمام الوجود الأبدي الذي يطبق عليها.