الخلود (٤٠). " وبدأ رونسار نظم "الفرنسيادة" المنشودة، ولكنه ألفى ربة شعره أقصر نفساً من أن تجري هذا الشوط الطويل، وما لبث أن أقلع عن المحاولة المزعومة، وعاد إلى غنائياته وحبه. وقضى أيامه في دعة وسلام حتى أدركته الشيخوخة وهو في مأمن من ضجيج الدنيا، محافظاً في السياسة والدين دون ما خطر، مكرماً من شباب الشعراء، محترماً من الجميع إلا من الموت. وقد وافته منيته في ١٥٨٥ ودفن في تور، ولكن باريس منحته جنازة أولمبية مشى فيها كل أعيان العاصمة ليسمعوا أسقفاً يرتل "قصيدة جنائزية".
أما الشعراء الذين خلعوا عليه لقب الإمارة فقد أصدروا كثيراً من دواوين الشعر، ولكن شعر ميت برغم رقته. وكان أكثرهم كسيدهم وثنيين يعلنون كثلكتهم المحافظة حين يروقهم إعلانها، ويحتقرون الهيجونوت المتزمتين، وكانوا أرستقراطيين كبرياء، ودماً أحياناً، وإن خوت جيوبهم، يكتبون لدائرة من القراء أتيح لها من الفراغ ما يكفي للاستمتاع بالشكل. ورد رابليه على خصومتهم بالسخرية من حذلقتهم، ومن تقليدهم الوضيع للبحور والعبارات والنعوت اليونانية والرومانية، ومن ترديدهم التافه للموضوعات القديمة وللأخيلة والمراثي البتراركية. وفي هذا الصراع بين المذهبين الطبيعي والكلاسيكي تقرر مصير الأدب الفرنسي. فأما شعراء فرنسا وكتاب مآسيها المسرحية فآثروا الطريق المستقيم الضيق، طريق البناء الكامل والجمال المنحوت الدقيق؛ وأما كتاب النثر فقد استهدفوا إمتاع القراء بقوة مادتهم دون سواها. ومن ثم بات الشعر الفرنسي قبل عصر الثورة عصياً على الترجمة، فأنت لا تستطيع تحطيم إناء الشكل ثم إعادة صبه في قالب أجنبي، على أن هذين النهرين التقيا في فرنسا القرن التاسع عشر، وامتزج نصفا الحقيقة، واقترن المضمون بالشكل، وعقد اللواء للنثر الفرنسي.