فإذا لم يتعهد بالتزام العقيدة الرسمية، عليه أن يغادر إنجلترا دون رجعة، وإلا كان جزاءه الموت (٨٦).
وعند هذا الحد، وسط هذا العنف البالغ والاضطراب الشديد، ارتفع قس متواضع بموضع النزاع إلى مستوى الفلسفة والتقوى والنثر الرائع. وكان ريتشارد أحد أثنين من رجال الدين عهد إليهما بإقامة الصلوات في معبد لندن، أما الثاني فهو والتر ترافرس؛ صديق كارتريت. وفي موعظة الصباح دافع هوكر عن سيادة إليزابث الدينية، وفي المساء انتقد ترافرس حكومة الكنيسة من وجهة نظر البيوريتانز، ووسع كل منهما عظته حتى صارت كتاباً. ولما كان هوكر يكتب أدباً كما يكتب اللاهوت، فقد توسل إلى أسقفه أن ينقله إلى بيت ريفي هادئ. ومن ثم فإنه في بسكوم Boscombe ولتشير أكمل الأجزاء الأربعة الأولى من مؤلفاته "قوانين الدولة الكنسية"(١٥٩٤)، وبعد ذلك بثلاثة أعوام، في Bishopsbourne أرسل الكتاب الخامس إلى المطبعة، وهناك في سنة ١٦٠٠ قضى نحبه، وهو في سن السابعة والأربعين.
ولقد أدهشت إنجلترا "قوانينه" بالوقار الهادئ غير المتحيز الذي اتسمت به مناقشته وحججه، والعظمة الرنانة التي تميز بها أسلوب كتبه الذي كاد أن يكون لاتينياً. وامتدحه الأسقف ألن بأنه خير كتاب أخرجته إنجلترا. وأثنى عليه البابا كليمنت الثامن لفصاحته وغزارة علمه. وقرأته إليزابث شاكرة ممتنة على أنه دفاع مجيد عن حكومتها الدينية. وسكن روع البيوريتانز لما رأوا من الوضوح المهذب في لهجته. وتلقته الأجيال بوصفه مجاملة نبيلة للتوفيق بين الدين والعقل، وأدهش هوكر معاصريه بتسليمه بأن البابا نفسه يمكن تخليصه. وأذهل هوكر رجال اللاهوت بتصريحه بأن "توكيد ما نؤمن به بكلمة الرب ليس مقنعاً لنا قدر الاقتناع بما ندركه بالعقل (٨٧) " وأن موهبة التعليل والتعقل، إن هي إلا هبة وإلهام من عند الله.
بنى هوكر نظريته في "القانون" على فلسفة العصور الوسطى التي صاغها توماس الأكويني، وسبق نظرية "العقد الاجتماعي" التي جاء بها هويز ولوك. وبعد أن أبرز ضرورة التنظيم الاجتماعي ونعمته، جادل في أن الاشتراك الاختياري