الملاحة التي كشفت النقاب عن تجارب لا حصر لها، وعن قدر كبير من التاريخ الطبيعي … أقول حقاً إني إزاء هذا كله، لا أملك إلا أن أصل إلى الاقتناع بأن هذه الحقبة الثالثة من الزمن تفوق كثيراً عهد المعرفة اليونانية والرومانية … أما عن جهودي وأعمالي، إذا كان ثمة جهود وأعمال لي، فانه إذا عنى الإنسان أن يسر نفسه أو يسر الآخرين بالانتقاص من قيمتها أو نقدها، فإنها ستعود إلى المطلب القديم المتسم بالصبر والجلد "اضربني إذا ما أردت، ولكن اسمعني فقط" فلينتقد الناس وليقرعوا ما شاءوا، فانهم بذلك سوف يلاحظون ويقدرون (٧٦).
إن بيكون عبر عن أنبل مشاعر عصره-لتحقيق حياة أفضل عن طريق التوسع في المعرفة-ومن ثم فان الأعقاب خلدوا ذكراه بتذكار حي، هو تأثرهم به، لقد حركت روحه-لا طريقته-العلماء وبعثت فيهم القوة والنشاط. فكم أنعشهم وشحذ عزائمهم، بعد قرون كانت العقول فيها حبيسة قواعدها، أو واقعة في شراك عناكب من نسج الرغبات لا الحقائق، أن يصادفوا رجلاً أحب صوت الحقيقة مهما كان عنيفاً، وأحب جو البحث والكشف، وهو جو يبعث على الحياة، رجلاً وجد متعة في إلقاء ظلال الشك على دياجر الجهل والخرافة والخوف. وظن بعض رجال ذاك العصر، مثل دون، أن العالم في طريقه إلى الاضمحلال والانحلال، وأنه يسير بسرعة إلى نهاية الفناء والتحطيم، فأعلن بيكون إلى عصره أنه مرحلة شباب عالم، زاخرة بفورات الحياة.
ولم يكن الناس لينصتوا إلى بيكون في بداية الأمر، فإنهم في إنجلترا وفرنسا وألمانيا آثروا تحكيم السلاح في صراع العقائد، فلما خفت حدة هذا الصراع، فان هؤلاء الذين لم يكونوا مغلولين بقيود الحقائق، احتشدوا، تحدوهم روح بيكون، ليزيدوا من سيطرة الناس، لا على الناس، بل على ظروف حياة الإنسان وما يعتورها